أي “قطبة مخفية” أقنعت إسرائيل بالاتفاق؟
تردّد في بعض الأوساط الإسرائيلية، خلال الأيام الأخيرة، أنّ التوغل العسكري في جنوب لبنان وتدمير الأهداف في الضاحية الجنوبية والبقاع لن يتكفّلا لإسرائيل بحسم الحرب مع «حزب الله»، إلّا بعد دفع أكلاف فادحة. ولذلك، تصاعدت الأصوات هناك مطالِبةً بتبديل المسار الحالي، إما بالانتقال إلى مرحلة من الحرب أشدّ فاعلية وتشمل أصول الدولة اللبنانية، لتسريع بلوغ الأهداف المرجوة، وإما بالسير في الاتفاق المطروح إذا كان يؤمّن فعلاً هذه الأهداف من دون تكبّد الخسائر.
ثمة من يقول: صحيح أنّ نتنياهو يُصنَّف «الأكثر اعتدالاً» داخل حكومته، قياساً إلى شركائه في اليمين المتطرّف. لكنه هو نفسه قرّر ركوب موجة المغالاة في التطرّف والحرب واستثمارها إلى الحدّ الأقصى لأنّها تخدم مصالحه السياسية لجهة استمرار التماسك داخل حكومته، ومصالحه الشخصية لجهة تجميد الملفات القضائية التي يلاحَق بها في الداخل، والإدانة التي صدرت أخيراً في حقه عن المحكمة الجنائية الدولية.
بل إنّ بعض الخبراء في التركيبة السياسية داخل إسرائيل يعتقدون أنّ نتنياهو بات اليوم يشكّل واجهة لأصحاب القرار الحقيقي داخل الحكومة، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش اللذان يقودان عملياً خطى الحكومة في ما يتعلق بكل عمليات التفاوض الخاصة بغزة والضفة الغربية ولبنان والملف الإيراني.
وأمس، تمّ الكشف عن معلومات مفادها أنّ نتنياهو رفض تسوية في غزة، كانت مطروحة خلال الصيف الفائت، إرضاء للوزيرين بن غفير وسموتريتش اللذين هدّدا بالانسحاب من الحكومة لأنّهما اعتبرا الصفقة مع «حماس» هزيمة لإسرائيل. كما أنّ سموتريتش أعلن من جانبه أنّ العام المقبل 2025 سيكون عام إحكام السيطرة على الضفة الغربية. ويتوقّع الإسرائيليون أن يحظى هذا القرار بدعم الرئيس دونالد ترامب وتغطيته.
وأما في ما يتعلق بالمفاوضات مع لبنان، وفيما كانت الأنباء تتوارد أمس عن قرب التوصل إلى اتفاق، أو «هدنة» تقود إلى اتفاق، أعلن بن غفير صراحةً رفضه أي صفقة تنهي الحرب مع «حزب الله» في الوقت الحاضر. وقال: «بما أنّ «الحزب» هو الذي يطلب وقف النار، فمن الخطأ إبرام اتفاق معه وإضاعة الفرصة السانحة لتحقيق الانتصار. والأحرى أن نواصل الحرب حتى إلحاق الهزيمة به في شكل كامل».
الخبراء يجزمون أنّ نتنياهو أيضاً يتبنّى هذا الموقف المتصلّب، لكنه من موقعه كرئيس للحكومة يوحي للأميركيين والقوى الدولية الأخرى وللعرب باستعداده لقبول التسوية مع لبنان ووقف الحرب. وفي أي حال، هو لم يبد أي تأييد للأفكار التي حملها عاموس هوكشتاين من بيروت، قبل أيام، وأضفى على أجواء التفاوض غموضاً مثيراً للقلق، كرّسته عودة الوسيط الأميركي إلى واشنطن مباشرة، والتزامه الصمت الكامل إزاء نتائج جولته الشرق أوسطية.
هذا المناخ الإسرائيلي المتصلّب تجاه لبنان شهد في اليومين الفائتين علامات أكثر استثارة للقلق، توجتها تلميحات إلى احتمال الانتقال بالحرب في لبنان إلى مرحلة أقسى، بحيث تشمل أيضاً أصول الدولة اللبنانية التي بقيت محيَّدة نسبياً حتى اليوم، ومنها مبنى مجلس النواب. وصحيح أنّ هذه التلميحات تردّدت في أوساط سياسية وإعلامية بارزة كالوزير السابق بيني غانتس، لا عن وزراء أو رسميين، إلّا أنّ الخبراء يخشون أن يكون هذا التلميح متعمّداً في سياق خطة لتبنّيه رسمياً وتحويله إلى واقع.
وكان مسؤولون إسرائيليون لوّحوا في بدايات الحرب الحالية على لبنان بتكرار سيناريو حرب تموز 2006، أي بضرب البنى التحتية في لبنان. لكن الحرب تركّزت على مواجهة «حزب الله» وضرب بيئته، ولم تشمل مصالح الدولة اللبنانية إجمالاً، بسبب حرص الولايات المتحدة على ذلك. إلّا أنّها أصابت مواقع الجيش في الجنوب أحياناً كثيرة.
وفي الأيام الأخيرة، بدأت تتنامى مخاوف من لجوء إسرائيل إلى تصعيد حربها نوعياً باستهداف أصول الدولة اللبنانية، لتشمل المؤسسات والمرافق العامة، على غرار ما فعلت في العام 2006، سعياً منها إلى رفع مستوى الضغط على المجتمع اللبناني ككل وعلى «حزب الله»، من خلال تعميق الهوة بينه وبين العديد من المكونات الطائفية والسياسية.
ولكن، وفق مصادر ديبلوماسية، كان العائق الوحيد أمام تصعيد حكومة نتنياهو هو موقف واشنطن التي أبلغتها بضرورة التزامها مقتضيات المواجهة مع «حزب الله» حصراً. ويذكّر موقف واشنطن بدعوتها خلال حرب غزة إلى حصر القتال بحركة «حماس». ولكن، هناك، تمادى الإسرائيليون في توسيع الحرب في كل الاتجاهات. وهذا ما كان كثيرون يخشون حصوله في لبنان أيضاً. ولذلك، ضغط الأميركيون على حكومة نتنياهو للقبول بهدنة الـ60 يوماً التي يفترض أن تقود إلى اتفاق. وهذه المهلة تبدو مضبوطة جيداً على موعد تسلّم الرئيس دونالد ترامب لمسؤولياته.
وإذ يُنتظر إيضاح صورة الاتفاق بكامله، وترقب ما يمكن أن يتبع له من ملحقات، تعتقد المصادر إياها أنّ هناك «قطبة مخفية» شجّعت إسرائيل على قبول هذا الاتفاق. وهذه «القطبة» ربما تشمل أكثر من طرف إقليمي معني، كدمشق وموسكو اللذين تردّدت معلومات عن توليهما جانباً من ضمانات التنفيذ. وإذا كانت هذه المعلومات صحيحة، فإنّ الأمر قد يفتح الباب لتحولات أخرى في هذا النزاع المعقّد والمتعدد الأطراف.
طوني عيسى