الصراع في سوريا وأبعاده على الأمن القومي الإقليمي والدولي
سوريا، الواقعة في قلب الشرق الأوسط، تعدّ من أهم الساحات الجيوسياسية التي تشهد تداخلاً معقّداً بين المصالح الإقليمية والدولية. منذ اندلاع الصراع في عام 2011، أصبحت سوريا نقطة اشتباك رئيسية تعكس تنافساً حادّاً بين القوى الكبرى والدول المجاورة. يتجاوز هذا الصراع الحدود السورية ليؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي لدول مثل مصر، تركيا، إيران، روسيا، إسرائيل، دول الخليج، الأردن، العراق ولبنان.
سوريا والأمن القومي المصري
على مرِّ التاريخ، كانت سوريا جزءاً من العمق الاستراتيجي للأمن القومي المصري. يعود هذا الترابط إلى الأدوار الحضارية والسياسية المشتركة التي جمعت البلدين منذ العصور القديمة، وبلغت ذروتها في عهد الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958.
من منظور الأمن القومي، تُعتبر سوريا حاجزاً مهماً أمام محاولات الهيمنة الأجنبية على المشرق العربي. استقرار سوريا ينعكس إيجاباً على استقرار الإقليم العربي ككل. ومع اندلاع الحرب السورية، برزت تحدّيات متعددة لمصر، أبرزها انتشار الجماعات الإرهابية مثل «داعش»، وتهديد تلك الجماعات للأمن القومي العربي.
سياسياً، تسعى مصر إلى دعم حل سياسي شامل يضمن وحدة الأراضي السورية، إذ إن تقسيم سوريا أو استمرار الفوضى يهدّد الأمن الإقليمي العربي، ويعزز نفوذ قوى غير عربية في المنطقة كإيران وتركيا.
سوريا والأمن القومي التركي
تمثّل سوريا أهمية استراتيجية لتركيا نظراً للحدود الطويلة المشتركة التي تتجاوز 900 كيلومتر، فضلاً عن الروابط التاريخية والثقافية. ومع اندلاع الصراع السوري، وجدت تركيا نفسها أمام تحدّيات كبرى، أهمها أزمة اللاجئين السوريين التي باتت تُثقل كاهلها اقتصادياً واجتماعياً، إضافة إلى التهديدات التي تمثلها الجماعات الكردية المسلّحة في شمال سوريا.
الطموحات التركية في سوريا لا تقتصر على الأمن الحدودي، بل تنبع من رؤية أوسع تتعلق بإعادة رسم النفوذ الإقليمي. تسعى أنقرة إلى منع تأسيس كيان كردي على حدودها الجنوبية، مع تعزيز نفوذها في شمال سوريا عبر عمليات عسكرية مثل «درع الفرات» و«غصن الزيتون». في الوقت نفسه، تحاول تركيا تحقيق توازن مع القوى الكبرى كروسيا وإيران لضمان موقعها في أي تسوية مستقبلية للصراع.
سوريا والأمن القومي الإيراني
إيران تنظر إلى سوريا باعتبارها حلقة رئيسية في مشروعها الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. الحلم الإيراني بالوصول إلى مياه البحر المتوسط يُعتبر هدفاً استراتيجياً طويل الأمد، حيث يتيح لها تعزيز نفوذها الجيوسياسي والتجاري.
عبر دعمها للنظام السوري، تمكّنت إيران من إنشاء ممر جغرافي استراتيجي يمكّنها من إرسال الدعم لحزب الله في لبنان، مما يُعزز ميزان القوى ضد إسرائيل. إضافة إلى ذلك، ترى إيران في سوريا ساحة لتوسيع نفوذها العسكري والاقتصادي، ما يجعلها في صراع دائم مع القوى المناوئة لهذا التمدّد.
سوريا والأمن القومي الخليجي
دول الخليج العربي، وخاصة السعودية وقطر والإمارات، كانت من أوائل الدول التي اتخذت موقفاً حاسماً ضد النظام السوري مع اندلاع الثورة. بالنسبة لدول الخليج، يُمثل الصراع في سوريا مواجهة مباشرة مع النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.
ترى دول الخليج أن تعزيز نفوذ إيران في سوريا يُهدّد أمنها القومي، خاصة مع امتداد هذا النفوذ إلى العراق واليمن ولبنان. ولذلك، دعمت دول الخليج المعارضة السورية سياسياً وعسكرياً خلال المراحل الأولى من الصراع، في محاولة لاحتواء النفوذ الإيراني وإعادة التوازن في المنطقة.
إلّا أن القرار الذي اتخذ بإعادة سوريا الى الحضن العربي كان بارزاً لجهة الموقف الخليجي والعربي المتمثل بالتأكيد على وحدة سوريا وعودتها الى المجموعة العربية سياسياً.
كما أن استمرار الحرب في سوريا يشكّل تهديداً للأمن الاقتصادي لدول الخليج، إذ يؤدي إلى اضطراب أسواق الطاقة ويزيد من الأعباء المالية نتيجة دعم اللاجئين السوريين في الدول المجاورة.
سوريا والأمن القومي الأردني
الأردن، الذي يشارك سوريا حدوداً طويلة تمتد لأكثر من 375 كيلومتراً، تأثّر بشكل مباشر بالصراع السوري. التدفق الكبير للاجئين السوريين إلى الأراضي الأردنية أوجد تحدّيات اقتصادية واجتماعية كبيرة. كما أن قرب الجماعات المسلّحة من الحدود الأردنية يُمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأردني.
إضافة إلى ذلك، ترى الأردن في استقرار سوريا ضرورة استراتيجية لمنع انتشار الفوضى إلى أراضيها، خاصة مع تصاعد نفوذ الجماعات الإرهابية خلال السنوات الأولى من الحرب. لذلك، تبنّت الأردن موقفاً يعتمد على التوازن، داعمة للحلول السياسية التي تحافظ على وحدة الأراضي السورية وتقلل من التدخّلات الأجنبية.
سوريا والأمن القومي العراقي
العراق، الجار المباشر لسوريا، تأثّر بشكل عميق بالصراع السوري. الحدود المشتركة بين البلدين التي تزيد عن 600 كيلومتر جعلت من العراق ساحة تفاعلات مباشرة مع الحرب السورية. انتشار تنظيم «داعش» في سوريا والعراق أسهم في تعزيز الترابط الأمني بين الدولتين، حيث شكّلت الأراضي السورية ملاذاً آمناً للجماعات الإرهابية التي استهدفت العراق بشكل مباشر.
إضافة إلى ذلك، ترى الحكومة العراقية في سوريا امتداداً استراتيجياً لنفوذها الإقليمي، خاصة في ظل العلاقة الوثيقة بين البلدين التي تعززها المصالح المشتركة بين النظامين في دمشق وبغداد. مع الأخذ بالاعتبار ان كل من سوريا والعراق يقعان ضمن منطقة النفوذ الإيراني المباشر.
سوريا والأمن القومي الإسرائيلي
منذ اندلاع الصراع، تعاملت إسرائيل مع سوريا كتهديد مزدوج يتمثل في النفوذ الإيراني المتزايد ووجود الجماعات المسلحة بالقرب من حدودها. ورغم أن مرتفعات الجولان بقيت هادئة نسبياً منذ عام 1973، إلّا أن الحرب السورية أعادت تشكيل التهديدات الأمنية.
سعت إسرائيل إلى منع إيران من تحويل سوريا إلى منصة لتهديد أمنها عبر توجيه ضربات عسكرية لمواقع إيرانية وقوافل أسلحة متجهة إلى حزب لله. في الوقت ذاته، ترى إسرائيل أن استمرار ضعف الدولة السورية يخدم مصالحها على المدى البعيد، إذ يمنع صعود نظام قوي معادٍ أو استعادة سوريا لدورها المحوري في الصراع العربي – الإسرائيلي.
سوريا والأمن القومي الروسي
تمثّل سوريا لروسيا بوابة استراتيجية لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، تُمكّن موسكو من تحقيق حلمها التاريخي بالوصول إلى «المياه الدافئة». ومع تدخّلها العسكري المباشر في عام 2015، أصبحت روسيا اللاعب الرئيسي في المعادلة السورية.
بالنسبة لروسيا، استقرار نظام حليف في دمشق يضمن استمرار نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، ويعزز مكانتها كقوة عالمية مؤثرة. كما أن سوريا تمثّل سوقاً لاختبار وترويج الأسلحة الروسية، فضلاً عن كونها منصة لتعزيز التعاون مع إيران وتركيا ضد النفوذ الأميركي والغربي.
ويبقى لبنان الساحة الأكثر تأثّراً بالحرب الدائرة في سوريا، وتداعياتها أمنية واقتصادية وحتى على النسيج الداخلي اللبناني.
الصراع السوري ألقى بظلاله على الأمن القومي لدول المنطقة، حيث أصبحت سوريا ساحة تنافس إقليمي ودولي يعكس المصالح والطموحات المتباينة. بالنسبة لمصر، يشكّل استقرار سوريا ضرورة لضمان التوازن الإقليمي ومنع التفكك العربي. أما تركيا وإيران وروسيا، فتسعى كل منها لتحقيق أجندتها الخاصة على الأرض السورية.
على الجانب الآخر، تنظر دول الخليج والأردن والعراق إلى سوريا كعامل استقرار أو اضطراب يؤثر بشكل مباشر على أمنها الداخلي. وفي النهاية، يبقى حل الصراع السوري مرهوناً بتوافق إقليمي ودولي يأخذ بعين الاعتبار المصالح المتشابكة، مع ضمان استعادة سوريا لدورها المحوري كدولة مستقرة ومستقلة.
وختاماً، الجميع بانتظار انتقال ترامب الى البيت الأبيض.
*زكريا الغول محامٍ – دكتوراه في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية