لبنان وسوريا: ما مصير «التعايش» الاقتصادي؟
في الساعات الماضية، برزت عشرات الأسئلة المتّصلة بطبيعة العلاقات الاقتصادية بين لبنان وسوريا. تاريخياً، كل التحوّلات التي أصابت سوريا، كان لها وقع كبير على لبنان، إذ إن مفاعيلها الاجتماعية والاقتصادية كانت واسعة وعميقة نظراً إلى الترابط العميق في الجغرافيا السياسية بين البلدين. أُطلق على هذه العلاقة «الطبيعية» الكثير من الأوصاف من بينها «دولة واحدة في شعبين»، «الامتداد الجغرافي الطبيعي»، «رئة لبنان»، «خط الإمداد»… والكثير غيرها من الأوصاف التي تعبّر عن علاقة «أسر» بين بلدين لا يُفكّ ارتباطهما، بعضهما عن بعض. بالنسبة إلى لبنان، كانت هناك وجهتان في النظر إلى سوريا؛ واحدة تقول إن سوريا تمثّل وجهة الجغرافيا الضرورية للمقاومة واستمراريتها، والثانية لا ترى في سوريا سوى نظام مجرم تمادى في الهيمنة على لبنان. اليوم، بسقوط نظام الأسد، تبدو الإشكالية نفسها مطروحة أيضاً من زاوية أخرى، إذ سيترتب على نظام الحكم الجديد، إذا ظهر سريعاً، أن يقرّر نوع وطبيعة المصالح التي ستُبنى على أساسها العلاقة المشتركة، وهو ما يثير هواجس أكثر عمقاً: هل ستبقى سوريا جغرافيا الضرورة؟ هل سيهيمن النظام الجديد بشكل مماثل للنظام المجرم؟
كان لبنان يصدّر ما قيمته 242 مليون دولار إلى سوريا في عام 2014 وانخفض في عام 2023 إلى 96 مليوناً
ينظر الاقتصاديون إلى سوريا باعتبارها المعبر البرّي الوحيد للبنان نحو العراق والأردن ودول الخليج. سوريا ليست سوقاً واسعة بالنسبة إلى لبنان، وذلك يعود إلى فوارق سعر العملتين، والهوية الاقتصادية لكل منهما. إثر الانفصال، اختارت سوريا أن تتحوّل إلى الاكتفاء الذاتي الذي يعتمد على الصناعة والزراعة لتغطية الحاجات المحلية بدلاً من الاستيراد. وربما هذا ما كان سبباً أساسياً في تبنّي سياسات نقدية تجعل العملة السورية متدنية القيمة تجاه الدولار الأميركي إنما تحافظ على ثبات واستقرار، في مقابل تبنّي لبنان سياسات اقتصادية تعتمد على التجارة الخارجية والخدمات، ما يتطلب ليرة ذات قوّة شرائية أكبر تجاه الدولار. في الواقع، كان هناك اقتصادان نقيضان يتعايشان رغم ذلك. يتردّد الكثير من القصص عن تجّار حلب وحمص والشام الذين كانوا يأتون إلى لبنان لاستيراد البضائع وتهريبها عبر ممرات غير رسمية، وكانوا يستعملون خدمات المصارف اللبنانية لتحويل الأموال بحرية وادّخار الأموال والاستفادة من الفوائد المرتفعة… وفي المقابل، كانت سوريا مركزاً رئيسياً للكثير من العائلات اللبنانية الفقيرة والمتوسطة في البقاع وعكار التي تجد في أسواق سوريا بضائع رخيصة ذات جودة متوسطة. وفي مرحلة ما بعد الحرب الأهلية في لبنان، تعمّق هذا التناقض، وبدأت الوظائف الحيوية بين البلدين تصبح أكثر عمقاً. لبنان كان بحاجة إلى عمالة لإعادة إعمار وجدها في سوريا بمعزل عن كل النقاش الدائر بشأن دخولها إلى لبنان بشكل منظّم وشرعي أو بالعكس. وفي المقابل أصبحت حاجة السوق السورية إلى العملة الصعبة المتوافرة في لبنان، ملحّة أكثر في ظل العقوبات الدولية عليها. طبعاً كان هناك تعمّق أكبر في العلاقات السياسية بين نظرتين متناقضتين أيضاً.
ورغم الكثير من الاتفاقات التي وقّعها البلدان، إلا أن التطبيق كان دائماً يسقط في أفخاخ الهيمنة السورية السياسية بالتقاطع مع التناقضات المحلية في لبنان. لكن لم يسبق أن توقّفت سوريا عن كونها معبراً برياً للبنان إلا بعدما بدأت قلاقلها الداخلية تزداد وتكبر وصولاً إلى إغلاق معبر نصيب قبل بضع سنوات. يومها كان هناك نقاش عن وضعية المعابر السورية الأخرى التي تربط لبنان بالخليج والعراق والأردن. الطرق الأطول، والتي ليس فيها استقرار كبير، كانت تنطوي على مخاطر ترفع الأكلاف أكثر. ثم بدأ لبنان بالاستغناء عن هذا المعبر واستعمال التصدير البحري بديلاً، إلا أن ذلك تطلّب دعماً من الدولة استمرّ لفترة طويلة.
ورغم كل ذلك، ظلّت العلاقة قوية نسبياً. في عام 2014 كان لبنان يستورد من سوريا ما قيمته 91.6 مليون دولار ويصدّر بقيمة 242 مليون دولار. وفي عام 2018 بلغت قيمة مستورداته من سوريا 91.6 مليون دولار وقيمة صادراته 205 ملايين دولار، لكن في عام 2020 استورد ما قيمته 101 مليون دولار وصدّر بقيمة 107 ملايين دولار، وفي عام 2023 استورد ما قيمته 130 مليون دولار وصدّر بقيمة 96.6 مليون دولار. هذا التراجع في التصدير اللبناني، يُعزى بشكل رئيسي إلى إغلاق سوريا كمعبر برّي وحيد للبنان سواء أكان مقصد الصادرات السوق السورية نفسها، أم ترانزيت نحو العراق والأردن والسعودية وسواها من دول الخليج. كانت الصادرات التي تمرّ عبر المعابر البرية (المصنع، العبودية، القاع، العريضة…) تبلغ 720 مليون دولار في عام 2014، أي إنها كانت توازي 297% من مجمل الصادرات إلى سوريا، وهذه النسبة تراجعت في عام 2023 لتصبح 86%. أما على ضفّة الاستيراد، فكان الاستيراد عبر هذه المعابر يمثّل 507% من مجمل الاستيراد من سوريا، وأصبح في عام 2023 نحو 320%. هذا هو نتاج إغلاق سوريا كمعبر برّي للبنان.
يمكن الحديث عن الكثير من العلاقات المشتركة في مجال الربط الكهربائي وموافقة سوريا على صيانة كل التجهيزات التي تتيح للبنان استيراد الكهرباء من الأردن ورفض السلطات الأميركية والبنك الدولي منح الأردن إعفاء من قانون قيصر الأميركي الذي يفرض العقوبات على سوريا ويمنع أي علاقة معها. والأمر نفسه أيضاً بشأن استجرار الغاز من مصر عبر الأردن وسوريا. فالعقوبات التي فُرضت على سوريا كان لها تأثير حيوي على لبنان. هذا ما حصل خلال احتدام الحرب السورية، إذ عاش الاقتصاد اللبناني فترة صعبة، خصوصاً بالنسبة إلى المصدّرين عبر البر. وبحسب تقرير للبنك الدولي تحت عنوان «تأثير الصراع السوري على التجارة اللبنانية»، أدّت الحرب السورية إلى تقليص الطلب السوري على السلع والخدمات، بما في ذلك تلك ذات الأصل اللبناني. وباستخدام بيانات الجمارك توصّل البنك الدولي إلى أنه في المتوسط، خسر كل مصدّر سلع إلى سوريا قبل الحرب، 90 ألف دولار في الصادرات إلى سوريا بحلول عام 2012، ما يساوي ربع متوسط الصادرات إلى سوريا لكل مصدّر، قبل الأزمة السورية. وقد كان تأثير الصراع السوري «غير متجانس» بين المصدّرين، بحسب البنك الدولي. فقد أثّر بشكل رئيسي على المصدّرين المعتمدين بشدة على السوق السورية، في حين لم يكن له تأثير كبير على المصدّرين الذين ينوّعون وجهات تصديرهم. لكنه حتى المصدّرون الذين كانوا يُصدّرون إلى البلدان المجاورة عبر سوريا تأثّروا كثيراً.
وبنتيجة العقوبات واحتدام الحرب وقطع الطرق البرية، تضرّرت القطاعات الزراعية والصناعية والمنتجات اللبنانية بشدّة، وأدّى ذلك إلى تراجع في الإنتاج وخسارة في التجارة الدولية، حيث لا توجد تقديرات دقيقة حول تأثير الأزمة السورية على الكلفة الزائدة لتصدير البضائع اللبنانية إلى دول الجوار، لكنها بالتأكيد خسّرت الإنتاج اللبناني، وهو إنتاج أكلافه مرتفعة نسبياً، أسواقاً في دول الجوار. فارتفاع كلفة النقل يجعل البضائع اللبنانية أقل تنافسية مع بضائع الدول المنافسة، في أي مجال كان. وهذا الأمر يمكن أن ينعكس سلباً على الاقتصاد اللبناني برمّته، وهو ما يجب أن يكون أولوية لدى الحكومات اللبنانية الحالية والمستقبلية.
حتى الآن ليس واضحاً، ما هو مصير العلاقة بين لبنان وسوريا؟ هل سيواصل نظام الحكم الجديد العلاقة الاقتصادية نفسها، أم أن لديه أولويات مختلفة متصلة بسياسة المحاور؟ هل سينطلق من العلاقات التي سبق أن وقّعها البلدان في مجموعة واسعة من الاتفاقيات، أم أنه سينسفها ويبدأ في التفاوض على أسس مختلفة؟ هل سيتنكّر للجغرافيا السياسية التي تحكمها معاً أم تتغلّب مصالحه وأولوياته السياسية؟ هل سيبدأ لبنان بالنظر إلى سوريا باعتبارها شريكاً اقتصادياً مهماً، أم مجرّد معبر برّي ولوجستي؟ ثمة الكثير من الأسئلة في بلدين يشترك شعباهما بالهجرة الطوعية هرباً من الأزمات والحروب، وباندماج قاسٍ في مترتبات ما بعد الحروب الأهلية ونزعة السلطة… الكثير من الأسئلة هي رهن التطورات المقبلة.
ماهر سلامة