تسوير المجتمعات بالأخلاق العالية
إن الجدران السميكة والحصون المنيعة والأسوار العالية قد تجعل سيئي الخارج عاجزين عن أن يظهروا شواهق أسوارها أو ينقبوا سميك جدرانها.
لكنها -وقال التاريخ- لا تحمي البيوت والمدن من سيئي أهلها، الذين يصنعون بمدنهم بسوء فعالهم ما لا تصنعه أعتى الجيوش، والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة في غير موضع، قال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16).
ثم يضيف سبحانه في الآية التي تتلوها مباشرة ما يفيد أن هذه الحالة ليست حالة نادرة في التاريخ، وإنما هي كثرة كاثرة بكثرة الفساد والفاسدين في تلك القرى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (الإسراء: 17).
وفي موضع آخر من كتاب الله يشير القرآن الكريم إلى صورتين متقابلتين من نعيم الأمن والطمأنينة والعيش الرغيد الذي كان ينصب على إحدى البلدان من كل صوب وحدب انصباب الغيث، وكيف أن أهلها كفروا نعمة الله فأذيق أهلها بفساد صنيعهم الجوع والخوف حتى لكأنهم ألبسوه إلباساً، قال عز وجل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).
ولأنه لا أشفق على أمة الإسلام ولا أحرص على مصالحها ولا أخوف على بيوتها ومدنها ومجتمعاتها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال ربه عز وجل: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، لأنه كذلك فقد أكثر من تحذير أمته من الآفات النفسية والاجتماعية التي تنخر النفوس والمجتمعات حتى تصبح عرضة لسنن الهلاك التي لا تحابي أحداً.
ولننظر إلى فداحة الآثار الاجتماعية المترتبة على ترك شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «والَّذي نَفسي بيدِهِ، لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (أخرجه الترمذي، وأحمد).
ولئلا يظن أحد أن هذه الآثار العظيمة والعواقب الوخيمة لا تترتب إلا على الجرائم العظمى والمنكرات الكبيرة، فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه حتى الصور التي قد لا يؤبه لها من الفساد قد تفسد دنيا المجتمع الذي تنتشر فيه الأخلاق السيئة فتفصم فيه عرى الإخاء والتعاون والتكافل ثم تفسد حال الواقع فيها في دنياه وتفسد دينه في آخرته.
فعند أحمد وغيره من حديث أبي هريرة: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تَصومُ النَّهارَ وتَقومُ اللَّيلَ، وتُؤذي جيرانَها؟ قال: «هيَ في النَّارِ»، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانةُ تُصلِّي المَكتوباتِ، وتَصَّدَّقُ بِالأَثوارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها؟ قال: «هيَ في الجنَّةِ» (أخرجه أحمد، وصححه الألباني).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك مناسبة ولا يغادر وسيلة من وسائل التربية إلا ولفت نظر أصحابه لأهمية الأخلاق الحسنة في نيل نعيم الدنيا والآخرة، وبالمقابل يلفت أنظارهم إلى الفواجع التي تنتظر المتساهل فيها سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو أمة.
وجميعنا يعرف حديث المفلس الذي يدون لنا فيه الصحابي الجليل أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا الحوار العميق الذي دار في إحدى الجلسات التربوية التي كان يعقدها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وفي هذه الجلسة سألهم عليه الصلاة والسلام: «أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟»، قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: «إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» (صحيح مسلم).
وإذا كان أمر العقائد والعبادات والأخلاق بهذه الأهمية للأفراد والمجتمعات والأمم بحيث يصبح وجود هذه الأسوار المعنوية أكثر أهمية من الأسوار المادية لحماية أهلها والقائمين عليها، فإننا كأفراد ومجتمعات وأمم بحاجة إلى إعادة النظر في ترتيب أولوياتنا ونحن نحصن نفوسنا ومجتمعاتنا من المهددات والأخطار.
أمين حميد