غير مصنف

عندما يحضر التاريخ حاجاً

نعيش هذه الأيام المباركات التي حدثنا عنها الإسلام بوحييه القرآن الكريم والسُّنة النبوية في ظلال فريضة الحج، وركن الإسلام الأعظم والجامع بكثير من الدلائل والرسائل من الآيات والأحاديث، وما زالت عقول العلماء ومفاهيم المتخصصين من الباحثين والنجباء تستخرج لآلئ الحج وكنوزه، وتتعمق في رسمه ونفثه، وتقف مع أحداثه ومناسكه وقفة طويلة جديرة بالتأمل، جديدة في الكشف والتحمل.

والحج وإن كان ركن الإسلام الأعظم وأحد أعمدة الدين المتين، فإنه في حقيقته ربط بين التاريخ والحاضر في تكوينه واتفاقه وأركانه وشخوصه ممن اجتمعوا على شرعة الإسلام ولبوا جميعاً نداء خليل الرحمن عندما نفذ أمر الله له بقوله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (الحج: 27).

وهذا كان بداية كتابة تدوين الحج وتأريخه وسير الجميع على صفته وهيئته بما قرره الله تعالى لعباده المسلمين على مدار الأزمان والقرون قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13).

فالذي يحج يستحضر تاريخية وصورة المنسك الأول للحاج الأول رجلاً كان أو امرأة من الأنبياء والصالحين، ويسير على خطاهم بما قرره لنا رسولنا الكريم بحجه وبقوله المعروف والجامع للأمة: «خذوا عني مناسككم»، وما زلنا نسير بهذا الأخذ الأول وبهذا الاقتداء الوحيد في الإتيان بمناسكنا والفوز بها، لتحقيق صحتها أولاً وتحقيق قبولها الإلهي ثانياً؛ إذ الأول –في الغالب الأعم- موصول لتحقيق الثاني كما يعلم القارئ الكريم.

لكن المدهش أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف بعضاً من هذا التصور باستحضار التاريخ الذي مر به ومر به المسلمون الأوائل من صحابته المهاجرين ممن عايشوا حقبة تاريخية معينة كانت فيها ذكريات وأحوال شديدة الوطأة عليهم، فلماذا ذكر بها النبي صلى الله عليه وسلم بها هنا في أعمال الحج وأخذ المناسك عنه؟!

فقد أخرج البخاري، ومسلم، عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: «مَنْزِلُنَا غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ».

قال البخاري: يَعْنِي ذَلِكَ المُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ، تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، أَوْ بَنِي المُطَّلِبِ: أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

إن التاريخ هنا يحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحج مع المسلمين، لا ينساه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يريد للأمة أن تنساه؛ لأن له دلالات مهمة يجب أن تكون حاضرة في حواضر الناس وأعمال المسلمين وخاصة في أيام الحج، نجلي بعضه هنا:

أولاً: الأماكن شاهدة على ما يقام فيها:

فإن كان من حضر الحدث القديم وشاهد الفعل اللئيم قد اندثر وغبر، لكن الأماكن شاهدة على الحدث الذي مر بها وعرفت ووسمت بفعاله فيها، فلا تندثر معها الحقائق ولا تستخفي معها شواهد الحق على ما كان.

ولعل كثيراً من أسماء الجبال والوديان والمواطن التي يمر بها الناس في كثير من البلدان وخاصة في مكة وفي مناسك الحج ما زالت تحمل تاريخية الحدث، بل جعل الله من بعضها منسكاً وفيها عبادة، وما مقام إبراهيم وعرفات ومنى والعقبة وزمزم إلا أسماء أماكن لأحداث سطرها التاريخ حتى عرفت به اسماً ورسماً وعلماً ونشراً.

لقد عَرِف النبي صلى الله عليه وسلم وعَرّف أمته بحجر في مكة كان كلما مر يسلم عليه، كما عند مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، فكيف ببلاد وأحياء وجبال وسهول؟!

ولهذا، ستظل كل بقعة في بلاد المسلمين شاهدة على ما مر فيها وحدث معها من خير وعدل قُدّم أو شر وطغيان هدّم، وفي القلب من هذه غزة الأبية والقدس الحبيبة، فالأماكن والأحجار شاهدة والدماء الزكية ستبقى ساخنة.

ثانياً: التاريخ يجب أن يورث للأجيال:

فلماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج بما قام به المشركون من كيدهم والتنكيل بهم؟! وما علاقة هذا بمناسك الحج؟! وما الذي يستقيده السامع ممن حضر حجة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؟!

أسئلة كثيرة والإجابة الحقة هي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد للأمة أن تنسى ماضيها ولا ما مر بها، فلا خير في جيل لا يعرف تاريخه الذي مر بأمته وصنعه أجداده وآباؤه، أو صُنع بهم.

وفي هذا من الفوائد العظيمة؛ من تكوين للهوية واستكمال لعناصرها، ومن معرفة للأحداث العظام التي تَحمّلها الأوائل في نصرة هذا الدين وقضاياه، ومن فهم لطبيعة الخير والشر والحق والباطل وجولاتهم التي تقوّي عود أهل الإيمان وتثبّت معها الجنان والعقول والأركان، ومن معرفة مواطن القوة والضعف وأسباب كل منها أخذاً وحذراً، ومن إعلام بعظم التركة الملقاة على عاتق الأجيال وعدم التعاون في حقهم ولا مقدساتهم ولا تراثهم التي بذلت فيها الأرواح والأجساد والمهج من السابقين الصالحين.

ثالثاً: المؤامرات على أهل الإسلام وأرضه وقضاياه كفر:

لقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المؤامرة والصفقة العاقة والمكائد المدبرة على المسلمين والصحابة الأول التي عانوا من جرائها وحصارها كفراً، لقد دفعتهم إلى معاناة في شِعْبهم قرابة ثلاثة أعوام وصلت فيها حال المسلمين إلى الضنك الشديد والموت البطيء، من مقاطعة وجوع، ومرض وموت، وفاقة وعوز، وفقد وسلب للحريات، وتهميش وتضيق لأبسط وسائل الحياة.

فكل ما مر به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بالأمس مرت به غزة وشعوب عربية اليوم وأكثر؛ لذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤكد خبث الباطل وجريمة الضلال والفجور بما فعلوه أمس بهم وما استساغوه من كفر فعالهم حتى لا يُنسى أولاً ولا يُكرر ثانياً.

رابعاً: بيان قدرة الله تعالى على تغيير الأحوال واستبدال الأيام:

فمما تحمله مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بهذا البيان مما ذكرنا أن ينبه الأمة لعظيم رحمة الله بعباده وجميل فعاله بالصالحين من المثابرين المرابطين ودلائل قدرته النافذة على تغيير الأحوال واستبدال الليالي والأيام ورسم جديد المستقبل والمآل.

فبعد سنوات من انعقاد مؤتمرهم هذا في أرض كانوا يسعون فيها فساداً ويظنون أنهم ملكوها أرضاً وسماء وثروة، وجعلوها ديواناً لهم، ومكاناً يتعاهدون ويخططون ويدبرون فيه لفعالهم ونكالهم، قد عاد للمسلمين وخطوا فيها بأقدامهم بداية مناسكهم، شكراً لله على ما منَّ به عليهم، وبما أعاد الأرض والديار إليهم، فنغيّر معالم خبثهم إلى طيب، ونعقد حجنا لله ومناسكنا بين يديه وطاعتنا له في نفس الموطن الذي عصى وجار فيه أولئك على عباده.

إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد للحجيج أن يعيشوا المناسك، وأن يتذاكروا الحقائق، وألا يفصلوا ماضيهم عن واقعهم، ولا ينسوا إرثهم ولا قضاياهـم، إن التاريخ يحج معنا ويحضر في كل عرصات وشعاب البلد الأمين، ليعلن عن نفسه لأمة الإسلام وأبناء المسلمين فلا تنسوه ولا تفقدوه.

د.أحمد طه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *