غير مصنف

المؤمنون حقاً.. صفاتهم وجزاؤهم

قال عَمْرُو بْنُ مُرَّة: فُلَانٌ سَيِّدٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ سَادَةٌ، وَفُلَانٌ تَاجِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ تُجَّارٌ، وَفُلَانٌ شَاعِرٌ حَقًّا، وَفِي الْقَوْمِ شُعَرَاءُ(1)،

ليس كل المؤمنين على درجة واحدة، بل بعضهم أفضل من بعض، وذلك بحسب درجة الإيمان، فهناك مؤمن باللسان فقط، وهناك مؤمن بالقلب واللسان والأعمال.

وقد عزز الله تعالى صنفاً من المؤمنين، وصفهم بالوصول إلى حقيقة الإيمان، وجعل لهم جزاء عظيماً وثواباً جزيلاً، فمن هم المؤمنون حقاً، وما جزاؤهم ومصيرهم؟

صفات المؤمنين حقاً

أوضح الله تعالى صفات المؤمنين حقاً في موضعين من سورة «الأنفال»، الأول في أوائل السورة، والثاني في أواخرها، أما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3} أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال)، وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74)، ومن خلال هذه الآيات تتبين صفات المؤمن الحق، وهي كما يأتي:

1- وجل القلب عند ذكر الله تعالى:

الوجل: الخوف والفزع، والمراد: أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين كاملي الإيمان، المخلصين لله، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان(2).

ووجل القلب عند ذكر الله هنا لا يناقض اطمئنانه، حيث قال تعالى في موضع آخر: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ ‌تَطْمَئِنُّ ‌الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).

وتفسير الجمع بين الخوف والاطمئنان من ذكر الله تعالى يظهر في قول الرازي: الِاطْمِئْنَانُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ ثَلْجِ الْيَقِينِ، وَشَرْحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ خَوْفِ الْعُقُوبَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، بَلْ نَقُولُ: هَذَانِ الْوَصْفَانِ اجْتَمَعَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ‌ثُمَّ ‌تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر: 23)، وَالْمَعْنَى: تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ مِنْ خَوْفِ عَذَابِ اللَّه، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ عِنْدَ رَجَاءِ ثَوَابِ اللَّه(3).

2- زيادة الإيمان بتلاوة القرآن:

تسهم تلاوة القرآن في زيادة الإيمان، حتى يصل أهل القرآن إلى حقيقة الإيمان، وفي هذا يقول القرطبي: هُوَ زِيَادَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِكَثْرَةِ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّة(4)، ومما يدل على أن القرآن يرتقي بالإنسان في مدارج الكمال، قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي ‌لِلَّتِي ‌هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9).

3- التوكل على الله:

التوكل على الله يعني تفويض الأمر لله، واعتماد القلب عليه تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار، والاستعانة به عز وجل في جميع الأمور، ولا يحسن التوكل على الله إلا المؤمنون، فقد قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ ‌فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 23)، وقال عز وجل: (وَعَلَى اللَّهِ ‌فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160)، وكلما زاد يقين العبد في ربه واعتماده عليه؛ زاد إيمانه وارتفعت درجته حتى يصل إلى كمال الإيمان.

4- إقامة الصلاة:

إقامة الصلاة تعني المحافظة على أدائها في أوقاتها، وتمام العناية بأركانها، والحرص على الإتيان بسننها، والتحلي بآدابها، والالتزام بالآثار النافعة لها، فمن أتى بها على صورتها الكاملة؛ زاد إيمانه واكتمل، حيث قال تعالى: (وَأَقِمِ ‌الصَّلَاةَ إِنَّ ‌الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: 45)، ومن استكمل الصلاة في قلبه؛ اطمأن واستراح، ففي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي بلالاً: «أرحنا بالصلاة».

5- الإنفاق من رزق الله تعالى:

في التعبير بالإنفاق في الآية تأكيد على عدم الوقوف عند أداء الزكاة المفروضة، بل تأصيل وامتداد لمعاني العطاء المتنوعة، فلا يصل إلى كمال الإيمان من كان شحيحاً بخيلاً في أي جانب من جوانب الخير.

6- الهجرة في سبيل الله تعالى:

يبدأ فهم معنى الهجرة في سبيل الله من ترك الوطن الذي لا يحمي دين المسلم إلى وطن آخر، يستطيع أن يقيم فيه الشعائر، ويؤدي ما أمره الله بأدائه، ثم يتسع معنى الهجرة ليشمل ترك كل ما نهى الله عنه، والسعي والإقبال على كل ما أمر الله به وحث عليه، فمن فعل ذلك فقد أعظم السعي واستحق أعظم الأجر، حيث قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا ‌وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: 20).

7- الجهاد في سبيل الله تعالى:

بينت الآية السابقة أن الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من أعظم الأعمال، ويرتقي بفاعله إلى أعلى الدرجات، وفي مسند أحمد عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ له: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ ‌وَذُرْوَةِ ‌سَنَامِهِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، ‌وَذِرْوَةُ ‌سَنَامِهِ الْجِهَادُ».

8- إيواء المؤمنين:

الإيواء مصطلح يعبر عن تهيئة الإقامة للغريب، وحسن استقباله ورعايته، وتحقيق أمنه واستقراره، وقد ضرب الأنصار المثل في ذلك حين آووا النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، وقال تعالى في حقهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9).

9- النصرة لدين الله:

تعني تقديم النفس والمال وكل ما يملك الإنسان من أجل تعظيم هذا الدين وإقامته ونصرته، وهي نوع من الجهاد في سبيل الله، ولا ينصر دين الله إلا من اختاره الله واصطفاه.

جزاء المؤمنين حقاً

أوضح القرآن الكريم جزاء المؤمنين حقاً بعد أن ذكر صفاتهم، وفي هذا تشجيع وتحفيز للتحلي بهذه الصفات، من أجل الفوز بالثواب والجزاء، حيث قال تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وقال عز وجل: (أُولَئِكَ هُمُ ‌الْمُؤْمِنُونَ ‌حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74).

1- الدرجات العالية عند الله تعالى:

في قَوْله: (لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)؛ أَيْ: مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (آلِ عِمْرَانَ: 163)(5).

2- المغفرة:

يقصد بها إسقاط العقاب ونيل الثواب، والمغفرة من الله لذنوبهم هي التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال(6).

3- الرزق الكريم:

الرزق الكريم في الجنة هو الخالص عن الكدر، الطيب المستلذ، لا تبعة له ولا منة فيه(7).

___________________

(1) تفسير ابن كثير (4/ 13).

(2) فتح القدير: الشوكاني (2/ 326).

(3) تفسير الرازي (15/ 450).

(4) تفسير القرطبي (7/ 367).

(5) تفسير ابن كثير (4/ 13).

(6) تفسير المراغي (9/ 166).

(7) فتح البيان في مقاصد القرآن (5/ 221).

المجتمع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *