إشكالية الحركة النسوية.. من الحقوق إلى الانحراف والمغالاة!
ظهرت الحركة النسوية في القرن التاسع عشر، تحت وطأة الظلم القائم على المرأة الأوروبية الذي اتخذ أشكالاً معقدة ومتعددة، ومثلت الثورة الفرنسية الملهم الأكبر للنساء في فرنسا، ثم أوروبا للمطالبة بجملة من الحقوق الإنسانية الأساسية، في الوقت الذي كانت تعمل فيه بأجر يوازي نصف أجر الرجل أو أقل، إلى جانب هضمها في كافة حقوقها الأخرى، فضلاً عن النظرة الاجتماعية إليها من كونها لا ترقى لدرجة الرجل في الإنسانية، حتى اضطرت سيمون دي بوفوار لإطلاق صرخة تطالب فيها بالاعتراف بكون المرأة كائناً بشرياً كامل الإنسانية كالرجل، وليست حيواناً على هيئة إنسان.
فإذا كانت الظروف المحيطة بالمرأة الأوروبية حافزاً لانطلاق الحركة النسوية بعد إعلان حقوق الإنسان والمواطن في نهاية القرن الثامن عشر، ثم انتشار الاشتراكية في أوروبا، ثم انتقال الحركة النسوية للولايات المتحدة الأمريكية، وما أحاط بها من ملابسات إنسانية، فلماذا انتقلت تلك الحركة إلى البلاد العربية المسلمة؟ وما الدوافع التي تحرك النسويات للمطالبة بحقوق هي تتمتع بها بالفعل، وبما لم تحلم به نظيرتها من قبل ولا من بعد؟
النسوية في الإسلام.. تاريخ مشرف
منذ 14 قرناً، تمتعت المرأة المسلمة ببنود دستورية سماوية؛ حيث بجملة من الأوامر الربانية، عاشت المرأة المسلمة في ظل تلك النصوص تنعم بالحقوق والواجبات التي تتخطى بها درجة المساواة، لدرجة الأفضلية.
ونسوق هنا بعض تلك النصوص كنماذج ربما تعجب منها نظيرتها في الغرب، يقول تعالى في التدليل على مساواة المرأة بالرجل في الأجر على أداء واجب العمل والهجرة وتحمل الإيذاء في سبيل الله وتحمل تبعات الجهاد: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) (آل عمران: 195).
ويقول تعالى في الولاية الدينية بين المؤمنين والمؤمنات بعضهم بعضاً، فهم متساوون في التكليف، متساوون في الجزاء: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
ويضع التشريع قانوناً خاصة بالمرأة لحمايتها من التعدي بالقول صونا لها وكرامة في: (وَالَّذِّينَ يرَمُونَ الْمُحْصَنَاتِّ ثُم لَمْ يأتووا بِّأَرْبعَةِّ شُهَدَاء فَاجْلِّدُوهُمْ ثَمانِّينَ جَلْدَةً ولا تقبلوا لهَمُ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِّكَ هُمُ الْفَاسِّقُونَ) (النور: 4)، وقال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف) (البقرة: 228).
وليست النصوص القرآنية فقط هي التي تساوي بسلاسة بين الرجل والمرأة، فتأتي النصوص النبوية مفسرة ومؤكدة المعاني الواضحة، فتروي عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد قال: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»، فلا هو سيدها، ولا هي تابعة له.
متى؟ ولماذا نشأت النسوية في بلاد العرب؟
في نهاية حكم الدولة العثمانية، أو على وجه الدقة، في فترة الاضمحلال الحضاري التي امتدت حتى اليوم، عانت المرأة المسلمة من حالة انغلاق إسلامي عميقة، مثل حرمانها من حق التعليم، والعمل، ومباشرة حقوقها السياسية التي كفلها لها الإسلام في إطار طبيعتها الأنثوية (العاطفية)، ومحدودية قدراتها البدنية، وقوتها في مواطن أخرى.
لكن إحقاقاً للحق، فإن المرأة وحدها لم تكن هي المحرومة من حقوقها، وإنما كان هناك الكثير من الرجال، وطبقات كاملة من المجتمعات محرومة كذلك من حقوقها، فانتشر الفقر والجهل، ليظهر كتاب قاسم أمين عن حقوق المرأة، الذي لم يخرج كثيراً عما وضعه الإسلام من أطر ومواثيق، لكنه كان صدمة مجتمعية في حينه بما مثله من كسر لقواعد ثقافية امتدت لمئات من السنين، ولأن رمزية دولة الخلافة كانت قد أوشكت على السقوط، فقد ارتبط الفكر النسوي بالفكر السياسي الحادث، لتنحرف المطالبة بالحقوق المشروعة، لتخرج عن الثوابت الإسلامية التي تضبط المجتمع.
كيف انحرفت النسوية عن مسارها المشروع؟
لا ينكر منصف أن نشأة النسوية في أوروبا لها مسوغاتها وظروفها التي نشأت بها -وإن انتفت تلك المسوغات في بلاد المسلمين- وأن طلباتها الأساسية التي تعلقت بالأجور والحق في التعليم والتصويت كانت طلبات مشروعة، لكن الحقيقة أن الانحراف عن تلك الحقوق قد أفقد الكثيرين التعاطي معها، مثل تحويل صورة العلاقة بين الرجل والمرأة لنوع من العداء، أو الصراع البيولوجي بين الجنسين.
كذلك محاولة انتزاع المرأة من طبيعتها كصلاحيتها كأم وزوجة ومحاولة تماهيها في الصفات الذكورية، وكأنها كامرأة لن يكملها إلا أن تكون هي في ذاتها رجلاً مماثلاً للرجال في الأرض، وتلك المغالاة أفقدت النسوية التعاطف من قطاع واسع من مؤيديها.
ومن انحرافاتها كذلك محاولة القيام بإحلال وتبديل بعض مواقع الرجال في كافة المجالات واستبدال نسوية بها نتجت عنها في معظم الأحوال تطرفاً فكرياً في تلك المجالات، حيث تؤثر الطبيعة الأنثوية في اتخاذ القرارات دون اعتبار لتلك الطبيعة، منها مواقع سياسية وفكرية واجتماعية.
لقد تحولت فكرة النسوية لفكرة مرعبة بعد أن كانت مشروعة، حيث يراد بها اليوم إلغاء كافة الفوارق الطبيعية، وغرسها في كافة الوظائف اللائقة بدنياً ونفسياً وغير اللائقة بها، وذلك على حساب العديد من وظائفها الإنسانية المهمة، التي لن تستقيم البشرية بدونها، فهل آن الأوان ليتدخل العقلاء، وإعادة الأمور لنصابها، بتولي كل طرف دوره المنوط به، والقادر عليه؟
المجتمع