إسرائيل حبيسة التجاذبات: لا تبادل من دون تنازل
يواصل الجانبان، القطري والمصري، مساعيهما لإحداث خرق في المفاوضات غير المباشرة بين حركة «حماس» ودولة الاحتلال، تمهيداً لبلورة صفقة تبادل أسرى تتضمّن وقفاً لإطلاق النار، ينهي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وأثناء ذلك، تحاول تل أبيب أن تكسب بالسياسة ما تعذّر على جيشها تحقيقه عبر الخيارات العسكرية وقتل المدنيين، ما يضع معوقات أمام الصفقة، وإن كان المرجّح أن يتوصّل الطرفان إلى اتفاق بعد تعديلات متبادلة ومتوازنة وخفض سقوف المطالب، التي بدأت تنخفض بالفعل في ظلّ تواصل العجز الميداني الإسرائيلي عن تحقيق أهداف الحرب.حتى أمس، ومع بدء اجتماعات المجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية، المخصّصة لبحث اتفاق تبادل الأسرى، كان لا يزال الرهان قائماً، وإن نسبياً، على أن يتحقّق إنجاز ما عبر الميدان، يمكّن صانع القرار في تل أبيب، من تجنب «مرارة كأس» الاتفاق، ولا سيما أن «حماس» لم يعد يكفيها «تبييض» سجون إسرائيل من الأسرى الفلسطينيين، بل وسّعت دائرة مطالبها لتشمل وقف الحرب وفك الحصار، ومطالب أخرى من شأنها كذلك أن تقضم من إنجازات إسرائيل التكتيكية في الحرب، علماً أن الأخيرة لن تحقّق، كما يبدو، أي إنجاز إستراتيجي.
وإذ لم تخرج عن جلستين عقدتهما الحكومة، حتى الآن، أي قرارات، إلا أن أصل الانعقاد يشير إلى تليين ما في موقف تل أبيب. وهو تغيير مردّه ثلاثة عوامل: أولها، أن صانع القرار النهائي، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وصل إلى الحد الأقصى من رهاناته على تصلّب مواقفه في المفاوضات غير المباشرة مع «حماس»، في موازاة فشل جيشه في تحقيق أي خرق في الميدان، أو استرداد أي من الأسرى، وتصاعد الضغط الداخلي المدفوع بتحركات ميدانية لأهالي هؤلاء، وكذلك بدء مسار مزايدات أحزاب المعارضة التي رفعت شعار أولوية عودة الأسرى أحياء عبر التفاوض. ويتساوق ما تقدّم مع تصلّب غير قابل للتغيير لدى «حماس» نفسها، التي صمدت إلى حدّ لم يعُد ممكناً معه دفع قادتها إلى التراجع، خلافاً لما أراده المتطرفون في تل أبيب، والذين كانوا يعتقدون بأن مواصلة الحرب من شأنها إيجاد ظروف تجبر الحركة على إطلاق الأسرى، في حين تدرك الأخيرة أن الإفراج عن هؤلاء من توقف الحرب، هو خسارة من شأنها أن تُذهِب الصمود سدى.
أما العامل الثاني، فهو قرب انتقال القتال العالي الكثافة في جنوب القطاع، في خان يونس وجوارها، إلى المرحلة الثالثة، في أيام معدودة، تماماً كما حصل في شمال القطاع ووسطه، منذ أكثر من أسبوعين. إذ سيُفقِد ذلك جيش الاحتلال رافعة ضغط كان المفاوض الإسرائيلي يراهن عليها لدفع «حماس» إلى التراجع، وهو ما يعني اضطرار تل أبيب للتراجع عن السقوف العالية.
وفي خصوص العامل الثالث، فهو ضغط المستوطنين المهجّرين من الشمال نتيجة فرض الجيش حزاماً أمنياً داخل إسرائيل نفسها، وانتقال القتال هناك إلى مستويات التصعيد العالي، بما يشكّل أيضاً ضغطاً سلبياً على صانع القرار. وفي هذا المجال، ثمة توجه لبلورة «شيء ما»، سياسياً، يسمح لتل أبيب بأن تُطمئِن المستوطنين، وذلك عبر اتفاق يجري التوصل إليه بوساطة الطرف الأميركي، المعني هو الآخر، كما إسرائيل نفسها، بألّا تنزلق الأمور في هذه الجبهة إلى مواجهة شاملة. على أن أي مسار للتفاوض على ترتيبات بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، لن يحدث إلا بعد حرب غزة، وهو ما تأمل تل أبيب أن تفتح الطريق إليه المرحلة الثالثة من حربها على القطاع. وعلى أي حال، تتحرّك الأمور في هذه الجبهة، لتخدم جدولي أعمال: ضغط إضافي يسهم في دفع إسرائيل إلى التراجع عن تصلّبها في المفاوضات مع «حماس»، والموافقة على وقف لإطلاق النار باتت تل أبيب مستعدّة لامتداده لأشهر طويلة؛ وضغط آخر لخدمة مسار الحل الديبلوماسي، في خصوص الحدود مع لبنان.
شيطنة قطر
يعدّ الجانب القطري الأكثر نشاطاً في «وساطة» المفاوضات غير المباشرة بين دولة الاحتلال و«حماس»، وهو يعمل على بلورة اتفاق ما، من شأنه أن يكون مبنياً على نتائج العملية العسكرية، على أن ترافق ذلك تنازلات من الجانبين، تتوافق، ما أمكن، مع ترتيبات اليوم التالي، كما تراه واشنطن ويلائم مصالحها، التي أعيدت بلورتها بعد أن فشلت إسرائيل في «إبادة حماس» وحكمها، وفقاً لما كان عليه الرهان الأميركي ابتداء. والواقع أن ما لا تريد واشنطن أن تقوم به في مواجهة تعنّت صانع القرار في تل أبيب، تتكفّل به الدوحة عبر المفاوضات، الأمر الذي يثير حفيظة إسرائيل، ويدفعها إلى مهاجمة قطر، والاحتجاج عبر ذلك على الجانب الأميركي. كما أن لدى الفاشيين في إسرائيل دافعاً عقائدياً لمواجهة الدوحة، كونها هي الوسيط في مفاوضات يرفضونها، ويريدون بدلاً منها مواصلة الحرب، حتى طرد أو قتل آخر فلسطيني في القطاع. أما نتنياهو، فيريد عبر اصطفافه مع «جوقة مهاجمي الدوحة»، إفهام حلفائه وجمهوره اليميني بأنه إلى جانبهم، وإن كانت أقواله في الغرف المغلقة مع الوسطاء، أقل حدة وتطرفاً مما هي في العلن.
وبالنتيجة، وإلى حين بلورة صفقة تبادل، وفقاً لشروط الواقع الذي يتوافق أكثر مع مطالب «حماس»، ستبقى إسرائيل رهينة تجاذباتها الداخلية، مع ما يعنيه ذلك من تأخير في حسم الموقف، وإن كان الثمن اللاحق أعلى وأكثر سوءاً.
المصدر:”الأخبار”