انقسام مؤسّساتي في تركيا: «الدستورية» في قلب الكباش السياسي
شهدت تركيا، في الأيام الماضية، توتّراً داخلياً متعدّد المستويات، شمل المؤسّسات القضائية التي انقسمت على نفسها، ولم يستثنِ بالطبع المستوى السياسي، وذلك على خلفية قضية جان أتالاي. وأتالاي هذا، محامٍ كان شارك في أحداث غيزي الشهيرة، أواخر أيار 2014، إلى جانب مجموعة من المحامين وآلاف المحتجّين، على مشروع قطع أشجار الحديقة، لإقامة مركز تجاري كبير مكانها بالقرب من ساحة تقسيم. لكن الرجل اتُّهم لاحقاً مع آخرين بمحاولة «تقويض الحكومة القائمة والانقلاب على النظام»، لتنتهي محاكمته، في أيار 2022، بإصدار حكم بسجنه 25 سنة، وإيداعه سجن «سيليفري» الشهير بمعتقليه السياسيين في إسطنبول. ولاحقاً، نجح «حزب العمّال التركي»، الذي يرأسه إركان باش، في دخول البرلمان في انتخابات 14 أيار 2023، بأربعة نواب، أحدهم جان أتالاي، الذي انتُخب (وهو في السجن) عن محافظة هاتاي (الإسكندرون). وطبقاً للمادة الـ83 من الدستور، فإن الشخص المعتقل الذي يُنتخب نائباً، يصار إلى الإفراج عنه، ويتمتّع بالتالي بالحصانة النيابية الكاملة، والأمثلة على ما تَقدّم كثيرة. لكن الإفراج عن أتالاي تأخّر، فتوجّه محاموه إلى المحكمة الدستورية التي أصدرت، في الـ25 من تشرين الأول الماضي، قراراً بالإفراج عنه، ودخوله الندوة النيابية. إلا أن محكمة الاستئناف العليا عادت واعترضت على قرار «الدستورية»، بدعوى أن المادة الـ14 من الدستور تمنع أيّ شخص مدان بتهمة «تقويض النظام» من الاستفادة من المادة الـ83. وكرّر المحامون المحاولة مجدّداً، ليتكرّر السينايو نفسه، غير أن «الاستئناف» قرّرت هذه المرّة رفع دعوى ضدّ أعضاء في «الدستورية»، وهي أعلى مؤسسة قضائية، بتهمة «مخالفة الدستور»، مبرّرةً قرارها بالقول: «إذا طُبّق الدستور حرفيّاً، فإن الداعية الملاحق قضائياً بتهمة الإرهاب فتح الله غولين، وقادة حزب العمال الكردستاني جميل بايق ومراد قره ييلان وغيرهم، سيتمتّعون بالحصانة النيابية في حال انتخبوا نواباً».كان واضحاً منذ البداية أن القضية سياسية؛ إذ وقف «حزب العدالة والتنمية»، وفي مقدّمه وزير العدل، يلماز تونتش، إلى جانب «الاستئناف»، منتقداً أعضاء «الدستورية»، ومعتبراً أن هذه الأخيرة «لا تأخذ في الحسبان التفسيرات المختلفة للدستور، ولا يمكنها أن تحلّ محلّ الهيئات التشريعية وتخترع تشريعاً جديداً». أيضاً، دخل الرئيس رجب طيب إردوغان على الخط، مطالباً نواب حزبه بمنع أو تقييد حرّية التوجّه الفردي إلى «الدستورية» وتقديم شكاوى لديها. مع ذلك، وفي الـ21 من كانون الأول الماضي، عادت المحكمة نفسها لتؤكد قرارها ضرورة إخلاء سبيل أتالاي، فيما جدّدت محكمة الاستئناف رفضها إياه، إلى أن فاجأ نائب رئيس كتلة «العدالة والتنمية»، بكر بوزداغ، مساء الثلاثاء الماضي، الجميع، بأنْ بدأ بتلاوة قرار إسقاط العضوية النيابية عن أتالاي أمام الهيئة العامة. لكن الجلسة لم تمرّ على خير، إذ هرع نواب المعارضة صوب كرسي الرئاسة لمنع بوزداغ من تلاوة القرار حتى لا يصبح نافذاً. وتوجّه إركان باش، رئيس «حزب العمّال التركي»، الذي ينتمي إليه أتالاي، إلى بوزداغ، قائلاً: «طالما هناك عدالة في هذا البلد، فلا يمكنك قراءة القرار. وإذا لم يكن هناك دستور، فأنت لست نائباً لرئيس البرلمان»، مضيفاً: «من سخرية التاريخ أن يقرأ القرار من كان يوماً وزيراً للعدل. لقد قتل بوزداغ العدالة (…) كل المؤسّسات تداس تحت الأقدام. وما جرى هو انقلاب».
«إسقاط عضوية أتالاي هو آخر حلقات الانقلاب الملوّن الذي يقوم به حزب العدالة والتنمية ضدّ الدستور»
من جهته، دعا زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، إلى أن يتحرّك الجميع احتجاجاً على الانقلاب الذي جرى. أمّا نواب حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، فلاذوا بالصمت، بعدما طبّق بكر بوزداغ رئيس الجلسة، بنجاح، السيناريو الذي رسموه. وهكذا، فُضّت الجلسة على مشكلة جديدة تتعلّق بتطبيق الدستور، واتهام المعارضة الحكومة بانتهاكه، وحكم البلاد كما لو أنه ليس هناك دستور. ووفقاً لرئيسة كتلة «حزب الشعوب للديموقراطية والمساواة» الكردي، غولستان كوتيغيت، فإن القرار هو عبارة عن «مدّ يد المحكمة على إرادة البرلمان واختيار شعب هاتاي لأتالاي نائباً عنه». وفيما اعتبرت صحيفة «قرار» في عنوانها أن إسقاط عضوية أتالاي «عدم احترام لإرادة الأمّة»، رأى الحقوقي طورغوت قازان أن «البرلمان لا يحترم الدستور ولا حتى يعترف به. وهو بقرار رفع الحصانة، يمسح تحت الأقدام الدستور»، معتبراً أن ما جرى هو عملية مدبّرة بتعليمات «الرجل الواحد» (إردوغان). ووفقاً للكاتب المعروف محمد تزكان، فإنه «لم يَعُد هناك في تركيا قانون. وما فائدة 84 كلية للحقوق في أنحاء البلاد إذا كانت الحكومة تعلّق العمل بالدستور وتسيّسه». وما جرى بخصوص جان أتالاي، بحسبه، هو مجرّد بداية «عملية كبيرة» يقوم بها «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، بعدما «لم يَعُد هناك أيّ معنى للحديث عن القانون في هذه الأراضي». وتهدف العملية، وفقاً للكاتب، إلى تقليص صلاحيات المحكمة الدستورية، «ولو كان بيدهم لأغلقوها»، مشيراً إلى أن «هدفهم الانتصار في الانتخابات البلدية المقبلة ليفكّكوا المعارضة ويغروا النواب في بعض أحزابها لينضمّوا إليهم. إنهم بحاجة إلى 40 نائباً. وبعد ذلك يغيّرون القوانين كما يشاؤون».
وإذ يذهب الكاتب أحمد طاش غيتيرين، في «قرار»، إلى القول إن «جوهر المعركة هو على المحكمة الدستورية»، يرى محمد علي غولر، في «جمهورييات»، أن «إسقاط عضوية أتالاي هو آخر حلقات الانقلاب الملوّن الذي يقوم به حزب العدالة والتنمية ضدّ الدستور منذ 21 سنة. فالمادة الـ153 من الدستور توجب نشر قرارات المحكمة الدستورية في الجريدة الرسمية، وإلزام كل المؤسسات تنفيذها». ويضيف غولر أن «حزب العدالة والتنمية لا يحترم الدستور ويعدّله متى يشاء ولمصالحه الخاصة، وآخرها ترشّح إردوغان للمرّة الثالثة للرئاسة، رغم تعارض ذلك مع الدستور الذي يسمح بالترشّح لدورتَين متتاليتَين فقط».
المصدر:”الأخبار”