اجتماع بكركي: هدنة المتحاورين أم جرس إنذار؟
أفضل ما يُتوقّع أن يُخلّفه لقاء بكركي، أن يجتمع إلى طاولتها الأفرقاء الأكثر استسهالاً لتبادل التشهير والطعن والتخوين والاتهام، بعضهم حيال بعض آخر، وأن يعزموا بعد الآن، إلى بعض الوقت، على التحاور وجهاً لوجه في كل ما يتناحرون عليه
بضع خلاصات انتهى إليها الاجتماع المسيحي في بكركي الخميس:أُولاها، إعادة جمع الأحزاب والكتل إلى طاولة حوار في ما بينها برعاية البطريركية المارونية تمهّد لهدنة في حملاتها المتبادلة إحداها حيال الأخرى في كل ما تتناحر عليه. ذلك يقطع الطريق أو يُفترض أن يقطعها على المواقف المسبقة بين الأحزاب والكتل هذه بإزاء رفضها التواصل والتحاور في ما بينها. إلى الآن تقتصر المشاركة فيها على ثلاثة أحزاب هي التيار الوطني الحر والكتائب والقوات اللبنانية وقوتان سياسيتان ليستا حزبيتين ولا تمثلان كتلتين نيابيتين وازنتين هما النائبان ميشال معوض ونعمة أفرام على أنه تمثيل مناطقي. افتقرت للشخصيات المسيحية المستقلة عن هؤلاء جميعاً ما يحرم الاجتماع تالياً رأياً ثالثاً بين اصطفافين.
ثانيتها، مناقشة وثيقة تبدّى منذ ما قبل اجتماع الخميس، في التي سبقته بين المشاركين إياهم، أنها في حاجة إلى إعادة نظر في التوجه العام كما في القضايا المثارة. مع أنها ليست جديدة، واطّلع المجتمعون على أفكارها سلفاً، بيد أنهم الآن في طور تعديلها إن لم يكن أكثر في جوانبها الجوهرية، سواء المتصلة بعلاقة المشاركين بعضهم مع بعض أو حيال الفريق الآخر في الشراكة الوطنية. أعدّت المسوّدة قبل ثلاثة أشهر لجنة ضمّت نعوم فرح وزياد الصايغ وإيلي كيروز. إلا أن الحاضرين أضافوا إليها أفكاراً جديدة نجمت عن مقارباتهم المتناقضة لما تضمّنته.
ثالثتها، انتهى اجتماع الخميس إلى التفاهم على عنوان للوثيقة يختلف عن ذاك الموضوع لها في الأصل. من «المسيحيون إلى أين؟» إلى «لبنان إلى أين؟» بغية تعميم الهواجس والقلق وإضفاء طابع شمولي لارتباطه بالكيان والهوية والأخطار المهدّدة. مع ذلك تكمن مشكلة المشاركين ومصدر نزاعاتهم في التفاصيل لا في العناوين. ما يلتقون عليه يتجاوز بكثير ما أوردته المسوّدة على أهميته، على نحو الحياد واللامركزية الإدارية والقرارات الدولية والافتئات على الوظائف المسيحية وعدم تورّط لبنان في الخارج وانتخابات رئاسة الجمهورية. علة كلٍّ من العناوين هذه انطواؤها على كمّ من التفاصيل هي مكمن الاختلافات والتباين واحداً بعد آخر. أضف عاملاً يصعب تجاهله ــ إن لم يكن في صلب التناحر ــ هو العداء الشخصي والكراهية المتبادلة بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية.
من «المسيحيون إلى أين؟» إلى «لبنان إلى أين؟» لتعميم الهواجس والقلق وإضفاء طابع شمولي
رابعتها، الامتحان الفعلي لنجاح الحوار المسيحي ـــ المسيحي كما تتوخّاه بكركي توافقه على الأمر الأكثر استعصاء. الواضح من تمثيل الحاضرين في اجتماع الخميس وجود اصطفافين غير متكافئين: التيار الوطني الحر (بعد تغيّب تيارة المردة) على وفرة التناقض بينهما أيضاً قبالة الآخرين جميعاً في المسألتين الأكثر تعقيداً وهما سلاح حزب الله والقرار 1559. بينما يقول التيار الوطني الحر إن سلاح حزب الله أو المقاومة هو من أجل حماية لبنان، يقول الآخرون جميعاً إنه وسيلة ابتلاع الدولة برمّتها وتهديد مباشر للكيان والهوية. موقفان متناقضان يتعذّر الوصول إلى حل وسط بينهما. المعضلة نفسها في القرار 1559 الذي هو الوجه الآخر لتجريد حزب الله من سلاحه ويصبّ في الهدف نفسه: التخلص من فائض القوة في الحزب كي يتوازن مع الشركاء الآخرين في النظام والدولة والمجتمع. بينما يقول التيار الوطني إن المطلوب «احترام» القرار 1559 لا فرض تنفيذه، المستعصي في كل حال، يقول الطرف الآخر إن التزام تنفيذه هو المدخل إلى الحياد بعد أن يشير إلى أن التيار يتنصل مما هو وراءه وفاخر بأنه أحد صانعي القرار 1559 قبل سنتين من صدوره عام 2004 من خلال حملات الرئيس ميشال عون في الخارج، أضف تمسكه به حتى انتقاله عام 2006 إلى التحالف مع المقلب الآخر في وثيقة «مار مخايل»، وتخليه إذَّاك عما صنعه أو شارك في صنعه على الأقل.
خامستها، تقييم جدوى أي وثيقة مسيحية في مقدرتها على مخاطبة الشركاء الآخرين، لا الاكتفاء بالانغلاق على نفسها دونما التحاور مع مَن يفترض أنهم معنيون مباشرة في كل ما تثيره وخصوصاً في مسألتي سلاح حزب الله والقرار 1559 الوثيقَي الصلة بالثنائي الشيعي. في أحسن الأحوال لا تملك الوثيقة الوصول إلى أهدافها في معزل عن التواصل مع أولئك ومحاورتهم. انتهى المطاف بالتريث في المسوّدة المتداولة وإعادة صوغها، على أن يُصار إلى التوسع في مناقشة مضمونها مع الأفرقاء غير المسيحيين قبل الوصول إلى إصدارها. وحده البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي صاحب مبادرة الحوار المسيحي ــ المسيحي قادر على قيادة الحوار مع الطرف الآخر. فُهم أنه صاحب اقتراح إعادة الصوغ وتناولها العقبة الكأداء وهي مصير سلاح حزب الله والخيارات المتاحة لإخراجه من معادلة التوازن الداخلي.
سادستها، مع أن انتخاب رئيس للجمهورية هو الاستحقاق الراهن الأكثر تعقيداً والأكثر تهديداً للمسيحيين والموارنة خصوصاً، بحرمانهم الاحتفاظ بموقعهم في رأس هرم الدولة، لم يَبن الخلاف عليه في اجتماع بكركي. تحدّث المجتمعون فيه، التيار الوطني الحر والفريق الآخر المناوئ له، بطريقة مشتركة تقريباً في ما يريدون وما لا يريدون: تأكيد استعجال انتخاب الرئيس، رفض رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الإحجام عن الخوض في الأسماء في المكان والزمان، التقاطع على المرشح الثالث الموصوف تارة بـ«الواقعي» أو «الطبيعي» أو «الوسطي». ليس انتخاب الرئيس إلا التعبير الأكثر وضوحاً، في الوقت الحاضر، عن عمق الانقسام الماروني ــ الماروني على التفاصيل الخَفية في العنوان الرئيسي: اسم الرئيس لا مواصفاته وانتخابه فحسب. ليست مصادفة أن رؤساء الأحزاب والكتل الممثّلة في اجتماع الخميس هم أول المرشحين للاستحقاق.
المصدر:”الأخبار”