انطلاق المحاكمة الموعودة: نتنياهو يهرب… إلى التأزيم
بدأت أولى جلسات محاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أمس، حيث مثل أمام القضاة للدفاع عن نفسه بوصفه متّهماً بأكثر من جريمة: تلقّي الرشى، والاحتيال، وخيانة الأمانة. وليس من الواضح بعد ما إذا كانت المحاكمة سترخي بتداعيات تفضي إلى تغييرات على الساحة السياسية الإسرائيلية، وتالياً تنسحب على الحروب التي تخوضها إسرائيل في أكثر من ساحة. على أن الإجابة لن تكون مفاجئة، كما أنها لن تكون سبباً لردع التصعيد أو منعه؛ ذلك أن المحاكمة، التي يخشى نتنياهو أن تؤدّي إلى فقدانه السلطة وسجْنه، كانت وما زالت جزءاً لا يتجزّأ من أسباب استمرار الحروب الإسرائيلية.
وبعد أربع سنوات ونصف سنة على بدء إجراءات المحاكمة، في أيار 2020، وصولاً إلى وقوف نتنياهو، أمس، أمام منصة الشهود بوصفه متّهماً، ها هي إسرائيل تسجّل سابقة أولى في تاريخها: رئيس الوزراء، أي رأس السلطة السياسية، يدلي بشهادته، من قفص الاتهام، في أربع جرائم رئيسية، يتفرّع منها أخرى ليس معلوماً ما إذا كانت ستتكاثر مع سيْر المحاكمة. وكان نتنياهو، كما وزراء حزبه وعدد من أعضاء المجلس الوزاري المصغّر، قد سعوا إلى تأجيل المحاكمة ربطاً بالوضع الأمني لرئيس الحكومة الخائف على حياته (من إمكانية استهدافه) نتيجة ظهوره في أماكن وأوقات محدّدة ومعلنة مسبقاً، إلّا أن المحاولات تلك سقطت بقرار من المحكمة نفسها، التي رفضت أيضاً إبطاء إجراءات الجلسات ومواعيدها المقرَّرة.
وفيما يصعب تقدير المدّة التي ستستغرقها المحاكمة، كون ذلك يرتبط بالإجراءات والأسئلة والأجوبة وما سيبنى عليه لاحقاً، لكن أرجح التقديرات تشير إلى أنها قد تصل إلى 20 يوماً، مقسّمة على أسابيع طويلة (ثلاث جلسات مطوّلة في الأسبوع). على أن جلسات المحاكمة وسماع شهادة المتّهم، لا تعني الكثير في المدى المنظور؛ فلا قوانين أو أعرافَ ملزمة تستدعي من نتنياهو تقديم استقالته بوصفه متّهماً، كما لن يكون هناك تقليص لصلاحياته بوصفه رئيساً للوزراء والسلطة التنفيذية. فكلّ الصلاحيات على حالها، والمحاكمة لا تنتقص منها، بل ربّما تزيدها نتيجة حاجة المتهم إلى قرارات وأحداث، تحرف انتباه الجمهور عن المحاكمة نفسها، وعمّا يمكن أن يتكشّف عنها من حقائق، تضرّ بنتنياهو ومستقبله السياسي وحضوره ومكانته.
سيكون نتنياهو معنيّاً، طوال مدّة المحاكمة، أن يُبقي نفسه على كرسيّ رئاسة الحكومة
ويعني ما تقدّم، أن نتنياهو سيكون، طوال المدّة المشار إليها، معنيّاً، بشكل مضاعف، بأن يُبقي نفسه على كرسيّ رئاسة الحكومة، لأن ذلك جزء لا يتجزّأ من دفاعه عن نفسه؛ فما يمكن له أن يفعله وهو في سدّة الحكم، أكثر بكثير ممّا يمكنه فعله وهو خارج رئاسة الوزراء، الأمر الذي يعني اضطراره – وهنا على خلفية المصلحة الشخصية إضافة إلى المصلحة العامة – إلى أن يُبقي على ائتلافه ويمنع تفكّكه، وتالياً – وهنا أهمّ ما في المحاكمة وتداعياتها – إبقائه على الحرب في غزة وفي غيرها، ومنْعه أيّ اتفاق أو تسوية لإيقافها، وأيّ إجراء ضروري لمنع الانقلاب عليه من شركائه في الائتلاف.
كذلك، وهذا هو الأهمّ من منظور اللعبة السياسية الداخلية في إسرائيل، فإن الشركاء أنفسهم في الائتلاف، يدركون وضع نتنياهو وحساسيّته وخشيته من إمكان فرط الائتلاف الحكومي، الأمر الذي يتيح لهم رفع سقف توقعاتهم واختبار قدرتهم على استنزافه إلى الحدّ الأقصى، أي الإكثار من مطالبهم الخاصة، كما هو حال أحزاب الصهيونية الدينية التي تسعى إلى الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية والاستيطان فيها وضمّها إلى إسرائيل. وعلى المنوال نفسه، تبدو الأحزاب الحريدية معنية، مع توقعات عالية جداً، بأن يلبّي رئيس الحكومة مطالبها تحت طائلة انهيار الحكومة، ومن بينها إعفاء أتباعها من التجنيد في الجيش، ومنح مؤسساتها التعليمية والاجتماعية عطاءات مالية أكثر سخاءً.
وإذا كانت الاتهامات الموجّهة إلى نتنياهو مثقلة بالأدلّة والقرائن والشهادات والاعترافات (أكثر من شهادة ملك في أكثر من ملف اتهام تشكَّل ضدّه)، إلّا أن المتّهم لا يعترف بأيّ من التهم الموجّهة إليه، وهو يعتمد في دفاعه عن نفسه على لعب دور المظلوم المضطهد، الذي حقّق لإسرائيل أمنها، فيما الآخرون يسعون إلى معاقبته على ما فعل من أجل المصلحة العامة. وكما كان متوقعاً، جاءت أولى جلسات الاستماع إلى شهادته في السياق المقدَّر نفسه: أنا المظلوم والمضطهد، واليسار والقضاء اليساري، يريد الإطاحة بمن جلب الأمن لإسرائيل. ويبدو أن نتنياهو يعتمد في إستراتيجيته الدفاعية على استحضار اليمين الذي يمثّله هو، بوصفه متهماً من قِبَل اليسار الذي يريد الإضرار بالشريحة اليمينية التي تحافظ على أمن إسرائيل وعلى مصالحها.
وكما ورد، فإن التداعيات المنتظرة لبدء المحاكمة، بمعنى إدانة نتنياهو، ستتأجّل إلى ما لا يمكن تقديره من الآن؛ فإن كانت المدة الزمنية بين بدء تشكيل الملفّ الاتهامي وبدء جلسات الاستماع إلى رئيس الحكومة، استغرقت أربع سنوات ونصف سنة، فيمكن التقدير أن المحاكمة وإجراءاتها – مع لحاظ القدرة على التسويف فيها وصولاً إلى الحكم وربّما لاحقاً الاستئناف عليه -، ستستغرق عقوداً. وكل هذه المدّة وما ينتظر خلالها من أحكام وحقائق وفضائح، لا تعني قانوناً ولا تلزم نتنياهو بالاستقالة أو بالحدّ من صلاحيته، أي إن مَن ينتظر تداعيات إيجابية نتيجة محاكمة رئيس حكومة العدو، عليه أن ينتظر طويلاً، بل عليه أن ينتظر تداعيات سلبية، خصوصاً أن نتنياهو سيكون معنيّاً بالتسبّب في كل ما يؤدّي إلى إطالة المحاكمة وإجراءاتها.
يحيى دبوق