مقالات

واشنطن و«زنار نار» حول آسيا وأوروبا وأفريقيا

ناصر قنديل

– ليس من تواصل بري يربط أميركا بالعالم، وخصوصاً القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا، ورغم ذلك تمتعت واشنطن بسطوة وهيمنة على أغلب دول هذه القارات بقوة السيطرة على موارد القوة المتمثلة بالسيطرة العسكرية على المحيطات والممرات المائية، والسيطرة على الشركات الكبرى التي تستورد المواد الخام، والشركات الكبرى التي تستطيع توريد أدوات العمران من توليد الطاقة إلى التنقيب عن النفط الى بناء المصانع والسدود، ومن خلال ذلك توفير شروط النهوض الاقتصادي، وصولاً للشركات التي تورد السلع اليومية إلى سوق الاستهلاك، وبمثل ما تشكل السطوة العسكرية عامل ردع، يمثل الإمساك بسوق المصارف والعلاقات المصرفية وسيطرة الدولار على الأسواق عامل ردع آخر تمثله العقوبات.
– خلال السنوات الثلاث الأولى من العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين، تواجه واشنطن تحديات غير مسبوقة على كل موارد قوّتها دفعة واحدة، فقد أطيح نظام العقوبات كقوة ضاربة في النموذج الروسيّ مرة واحدة، وتراجعت التبادلات التجارية بالدولار إلى النصف وتتجه مجموعة بريكس للإعلان قريباً عن الانتهاء من بناء منظومة تداول مالي وإطار علاقات مصرفية للتحويلات من خارج المنظومة الغربية التي تسيطر عليها واشنطن، ونجحت الصين خصوصاً بتشكيل بديل كامل يتيح الاستقلال كلياً، استهلاكياً وعمرانياً وتنموياً وتمويلياً عن الغرب، وعلى رأسه أميركا. وقد صارت الآلات الثقيلة في الغرب من صناعة صينية وصارت السلع الاستهلاكية المهيمنة في أسواق الغرب ذات منشأ صيني، وصارت الصين شريكاً تجارياً أول لكل بلاد العالم، بما في ذلك أميركا والاتحاد الأوروبي مجتمعاً ومع كل من دوله منفردة، ما جعل قرار الاستقلال قراراً سيادياً غير محفوف بالقلق. وهذا ما رأيناه في نموذج النيجر، البلد الأفريقي الصغير الذي بذلت واشنطن ماء وجهها للحفاظ على قاعدتها العسكرية فوق أرضه، وتمسّك بقرار ترحيل القواعد الأميركية، ووجدت واشنطن مجبرة على الرحيل لأنها عاجزة عن المواجهة العسكرية، رغم أن تفسيرها لطلب النيجر يفترض أن يدفعها نحو المواجهة، بقولها مرة إن القرار يأتي لحساب روسيا وقوات فاغنر التي اتهمتها بالسيطرة على قرار النيجر، وقولها مرة أخرى إن إيران تقف وراء القرار وقد تعاقدت مع النيجر على شراء إنتاجها من اليورانيوم لسنوات قادمة بأسعار مغرية، وكل من السببين كافٍ لتخوض أميركا حرباً، فلمَ لم تفعل؟
– خلال السنوات الثلاث نفسها وجدت واشنطن سطوتها العسكرية أمام تحديات استراتيجية وجيو استراتيجية، فعلى الصعيد الاستراتيجي تحولات بحجم التفوق الروسي القاطع في الأسلحة النووية، ودخول الصين مجال تطوير القدرة العسكرية والانتقال من صفوف القوى الإقليمية العظمى عسكرياً الى صفوف القوى الدولية عبر الإعلان عن بناء قوة عالمية بحرية خصوصاً، وبالتوازي كانت إيران وقوى المقاومة تطوران قدرات في مجال البنى البشرية المقاتلة من جهة، ومنظومات الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة من جهة موازية، وقد ظهر أن هذين السلاحين تمكنا في القرن الحادي والعشرين من احتلال مكان الدبابة والطائرة في حروب القرن العشرين، كما أظهرت حرب أوكرانيا. وظهرت الاعترافات الغربية بتفوق محور إيران والمقاومة في هذا المجال باعتبار سبب التفوق الروسي عائداً للاعتماد على الصناعات الإيرانية للطائرات المسيرة. وجاءت الاعترافات الأميركية بعناصر قوة أنصار الله في اليمن من خلال أدائهم في البحر الأحمر، كأخطر تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقبلها الاعتراف بهذا التحدي مع هجوم أرامكو قبل خمس سنوات، إضافات على مفهوم التحدي الاستراتيجي الذي تواجهه.
– تمثلت التحديات الجيواستراتيجية، بما حملته تطورات الحرب الأوكرانية حيث حملت السنة الحالية منذ بداياتها إشارات على بدء هجوم روسي معاكس بعد التيقن من تبدّد فرص الهجوم الأوكراني المفترض، والحرب عملياً روسية أميركية، حيث مستودعات السلاح الأميركية تغذي الجيش الأوكراني بالسلاح والذخائر، والخزينة الأميركية تنفق الأموال، والمخابرات الأميركية تقدم الخدمة اللوجستية والمعلوماتية وتحديد الأهداف ووضع الخطط، والبنتاغون يشرف على مشاريع التدريب وإدارة العمليات، والتراجع الأوكراني الى حد خطر الانهيار الوشيك، كما قال أمين عام حلف الناتو والرئيس الفرنسي، وكذلك كما تتحدث التقارير الغربية، يأتي على خلفية انهيار البنى البشرية للجيش الأوكراني، في ضوء خسائر الحرب، ونفاد مخزون الذخائر في مستودعات الغرب، بسبب طريقة العمل الناتجة عن منظومة الخصخصة وسيطرة الشركات في مجالات إدارة الأمن القومي. وانهيار الجدار الأوكراني يعني أن روسيا العملاق الأوروبي قد دكّ البوابة وصارت أوروبا مفتوحة أمامه، من دون أن تملك واشنطن قدرة الإسناد، ومن دون الحاجة لخوض حرب، تستطيع روسيا بقوة التأثير الناتج عن تطورات حرب أوكرانيا أن تخوض حرب تفكيك وإعادة تركيب مشاهد أوروبية جديدة في دول الجوار الروسي، وبثّ المناخ الجديد تباعاً في المجال الأوروبي الأبعد.
– بالتوازي تولد من حرب طوفان الأقصى وضع جيواستراتيجي جديد، حيث إيران بكامل قوتها ولم تنخرط في الحرب، بينما أميركا في قلب الحرب، وحيث كيان الاحتلال بكامل قوته مستنزف في الحرب وحزب الله لم ينزل بكامل قوته ومفاجآت أسلحته الى الميدان بعد، ولكن على ضفة موازية ومن المقاعد الخلفية، دخل اليمن ودخل العراق. وبينما بدأ اليمن في خوض تحدَي السيطرة الأميركية على البحر الأحمر وتوسع لاحقاً نحو خط المحيط الهندي حتى رأس الرجاء الصالح، يستعدّ العراق بمقاومته لتطبيق معادلة إغلاق الموانئ الإسرائيلية، ما يعني تحدي القوة الأميركية في البحر الأبيض المتوسط، وصولاً الى فرضية إقفال مضيق جبل طارق بالصواريخ. وهذا يعني عزل أميركا عن أوروبا وأفريقيا وآسيا، وتطويق هذه القارات بزنار من نار، بينما تقف روسيا فوق هضبة مرتفعة تطلّ على البر الأوروبي.
– قد لا يريد البعض أن يصدّق أن خرائط العالم الجديد قيد الرسم والكتابة، وأن شعوبنا ومقاوماتنا تشكل رقماً صعباً في هذه الخرائط وتلعب أدواراً كبيرة في ملاعب الكبار، لكن هذه هي الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *