عبد الباري عطوان
العمليّة الإرهابيّة التي استهدفت المجمّع التجاري الروسي “كروكوس ستي هول” في قلب موسكو وأدّت إلى مقتل 143 شخصًا مُعظمهم كانوا يحضرون حفلًا موسيقيًّا، وإصابة المئات، نفّذتها مجموعة مُدرّبة عسكريًّا، هذه العمليّة جاءت نقلة نوعيّة في الحرب الأوكرانيّة، ومُقدّمة للتّصعيد الاستراتيجي ودُخول حلف النّاتو رسميًّا فيها.
عندما تُحذّر السّفارة الأمريكيّة في موسكو رعاياها قبل أُسبوعين “من أن مُتطرّفين لديهم خطّة وشيكة لاستهداف تجمّعات كبيرة في العاصمة الروسيّة، بِما في ذلك الحفلات الموسيقيّة” فإنّ هذا دليلٌ واضحٌ بوقوف أمريكا خلف هذا الهُجوم من الألف إلى الياء، وإدانتها السّريعة للعمليّة الإرهابيّة مُجرّد دُموع تماسيح، وحفنة من الأكاذيب لا تحتاج إلى الكثير من التّفنيد.
السيّدة ماريا زاخاروفا النّاطقة باسم وزارة الخارجيّة الروسيّة قالت حين صُدور التّحذير الأمريكي “إذا كان لدى أمريكا معلومات عن أعمالٍ إرهابيّة على درجةٍ كبيرةٍ من الخُطورة، فقد كانَ عليها تسليمها إلى روسيا”، وكان هذا التّصريح أوّل تأكيد رسمي على وقوف الإدارة الأمريكيّة خلف هذا الهُجوم.
أمريكا، وبعد مُرور عامين على حرب أوكرانيا بدأت تشعر بالهزيمة فيها بالنظر إلى الإنجازات الروسيّة المُتناسلة، وأبرزها السّيطرة المُطلقة على إقليم دونباس جنوب شرق أوكرانيا وضمّه إليها بعد استفتاءٍ رسميّ، وفشل أمريكا ودُول حلف النّاتو في تحقيق أيّ انتصارٍ بفِعل تدخّلها المادّيّ والعسكريّ والاستخباريّ، فروسيا لم تنهار، واقتصادها ما زال قويًّا، والثّورة المُلوّنة التي توقّعوها لم تنفجر، والشّيء نفسه يُقال عن الانقلاب العسكري المُتوقّع للإطاحة بالرئيس بوتين، وما حدث هو العكس، وها هو الرئيس بوتين يفوز في انتخاباتٍ رئاسيّةٍ بأكثر من 87 بالمئة وبنسبة مُشاركة شعبيّة بلغت 74 بالمئة.
اللّجوء إلى العمليّات الإرهابيّة في العُمُق الروسي الذي تُجسّد في هُجوم “كروكوس ستي هول” جاء كأحد الأدلّة على حالة الإحباط الأمريكيّة، والرّد عليها بتوسيع دائرة الحرب، ولكنّه رِهانٌ خاسر، وقد يُعزّز احتِمالات الحرب النوويّة.
الرئيس بوتين أعلن، ونحنُ نَخُطّ هذه المقالة، أنّه تم القبض على جميع المُشاركين في هذا الهُجوم الإرهابي وعددهم 11 إرهابيًّا، بينهم أربعة من المُنفّذين، أمّا السيّدة مارغريتا سيمونيان رئيسة تحرير قنوات “روسيا اليوم”، ومجموعة “روسيا سيغودنيا” الإعلاميّة قد نشرت مقطع فيديو لاستجواب أحد المُشتَبه بتنفيذهم الهُجوم عَرّف فيه عن نفسه باسم فريدون شمس الدين من مواليد عام 1998 وأنه وصل من تركيا في 4 آذار (مارس) الحالي، واعترف بتجنيده عبر “تلغرام” قبل شهر تقريبًا، بعد رصد مُتابعته لأحد الدّعاة المُتشدّدين، فاتّصل به شخص وعرض عليه 500 ألف روبل (5 آلاف دولار) مُقابل تنفيذ عمليّة قتل جماعي في موسكو، وحوّلوا لهُ نِصف المبلغ فورًا.
السيّدة سيمونيان التي قابلتها شخصيًّا أثناء زيارتي لموسكو، وتُرافقها مجموعة حراسة أمنيّة في كُل تحرّكاتها، لتلقّيها تهديداتٍ بالقتل، أعربت عن اعتِقادها “بأنّ العقل المُدبّر لهُجوم كروكوس هو النّظام الأوكراني وليس “داعش” مثلما يدّعي الإعلام الأمريكي”، وأكّد هذه الاتّهامات الرئيس بوتين لاحقًا بقوله إن المُتورّطين كانوا في طريقهم للهرب إلى أوكرانيا ساعة القبض عليهم.
هذه التّصريحات الروسيّة بتوجيه أصابع الاتّهام إلى أوكرانيا، ربّما تُمهّد لردّ فِعلٍ انتقاميٍّ روسيٍّ عسكريٍّ وشيكٍ جدًّا، بالنّظر إلى التّهديدات التي أطلقها ديمتري ميدفيديف الرئيس الروسي السّابق، ونائب رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الروسي، بعد العمليّة الإرهابيّة، وأكّد فيها “أنّ روسيا ستقضي على القادة الأوكرانيين إذا تبيّن صِلتهم بالهُجوم “والموت مُقابل الموت”.
لا نستبعد أن يكون رأس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بات مطلوبًا، ومن غير المُستبعد أن يكون على رأس قائمة الاغتِيالات الروسيّة المُتوقّعة التّنفيذ في الأسابيع أو الشّهور المُقبلة، أو هكذا نفهم من تصريحاتِ ميدفيديف وما بين سُطورها.
الرئيس بوتين أعلن قبل هُجوم “كروكوس” بيومين الحرب على أوكرانيا، وتخلّى عن عبارة شنّ عمليّة عسكريّة خاصّة فيها، وأكّد مُجَدَّدًا أنّه مُستَعِدٌّ لنشر ترسانته النوويّة إذا تعرّضت السّيادة الروسيّة للتّهديد، وجاء هذا الإعلان ردًّا على تلميح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّ حلف النّاتو قد يُرسل 90 ألف جُنديّ بكاملِ معدّاتهم إلى أوكرانيا في الأيّام المُقبلة.
إعلان بوتين لحالة الحرب وحسب عقيدة الجيش الروسي، يعني استِخدام جميع أنواع الأسلحة المُتوفّرة بِما في ذلك الرؤوس النوويّة.
أمريكا المُرتبكة والمَهزومة في أوكرانيا والشّرق الأوسط (حتّى الآن) هي التي تقف خلف هذا التّصعيد ضدّ روسيا لأنّها المُستفيد الأكبر من العمليّة الإرهابيّة في موسكو لتحويل الأنظار عن حرب الإبادة الإسرائيليّة في قطاع غزة، والرّد على الفيتو الروسي- الصيني المُزدوج الذي وأدَ مشروع قرارها في مجلس الأمن بهُدنةٍ مُؤقّتةٍ في القطاع دُون أيّ إدانةٍ للاحتِلال، أو نَصٍّ صريحٍ بانسِحابٍ إسرائيليٍّ كامِل، والإصرار على الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين دُون مُقابل.
الرئيس بوتين لن يصمت على هذا الهُجوم في قلب عاصمته ووسط احتِفالات بالفوز بالرئاسة مُدّتها ست سنوات، وسيُدَفّع أمريكا وأوكرانيا ثمنًا غاليًا لهذا العُدوان، وسيقترب أكثر من القضايا العربيّة، حسب معلومات وثيقة وصلت إلينا.. والأيّام بيننا.