أخبار عربية ودولية

العسكر يريد مخرجاً و«بيبي» يتهرّب: خياران يتنازعان إسرائيل

لا يعني اتفاق تبادل الأسرى بصيغته التي يُعمل عليها الآن، وقفاً دائماً لإطلاق النار؛ بل تنص المرحلة الأولى منه على هدنة تمتد لأسابيع، تطلق فيها المقاومة الفلسطينية أسرى من النساء وكبار السن والمرضى والجثث، مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين. وإذ اتُفق على هذه المعادلة ضمن إطارها العام، إلا أن مطالب فلسطينية أخرى متصلة بها لم يُتفق عليها بعد، ومن بينها العودة الآمنة للفلسطينيين إلى الأماكن التي هُجّروا منها في شمال قطاع غزة ووسطه، والانسحاب الإسرائيلي من معبر رفح ومحور «فيلادلفيا» جنوباً وممر «نتساريم» في الوسط. وفي المقابل، تشترط إسرائيل ضمان عدم عودة المسلحين الفلسطينيين إلى شمال غزة، رغم أنه لا وقت ولا قدرة حالياً على استخدام تقنيات تمنع «عودة السلاح» وتتيح للقوات الانسحاب من «نتساريم» – في حال قبلت إسرائيل أصلاً بهذا الشرط الأخير -، وهو ما أقرّ به «الموساد» نفسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحدّ الجنوبي، الذي يتداخل في ملفه أكثر من اعتبار، من بينها الاعتبارات الإقليمية المرتبطة بالجانب المصري، فيما يمكن تجاوز شرط السيطرة الإسرائيلية عليه – بهدف منع إمداد غزة بالسلاح عبر الحدود – بواسطة التكنولوجيا، وهو ما يوجد وقت لفعله في المرحلة الأولى من الصفقة، الأمر الذي يعني أن التوافق هنا أسهل منه في بنود أخرى.وعلى أي حال، فإن العوائق غير سهلة، وهي متأتية من قرار إسرائيلي بالامتناع عن دفع أثمان الصفقة، ومحاولة استعادة أكبر عدد من الأسرى لقاء هدنة مؤقتة يعود الوضع بعدها إلى ما كان عليه، الأمر الذي لا يمكن للمقاومة القبول به. ورغم أن الأخيرة قبلت بترحيل مطلب إعلان انتهاء الحرب كجزء لا يتجزأ من اتفاق التبادل، إلى مفاوضات المرحلة الثانية، إلا أن إسرائيل لا تزال تبدي تعنّتاً حيال ذلك، مرده خشيتها من تظهير فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة، مقابل تمكّن الفلسطينيين من إعلان انتصارهم. وفي الواقع، فإن ما تريده تل أبيب، هو أن يكون لديها هامش مناورة كبير في اليوم الذي يلي تنفيذ الاتفاق، يتيح لها أن تفعل ما تريد من دون التزامات مقيدة، أي أن يكون بإمكانها تنفيذ عمليات عسكرية محدودة وتوغلات وإطلاق نيران عن بعد براً أو جواً، وهو ما يتفق عليه الإسرائيليون (عدا الفاشيين الذي يطالبون باستمرار الحرب من دون هدن)، مع تباين شكلي ليس إلا.

يعد التجاذب بين المؤسستين العسكرية والسياسية، مع تقدم للأخيرة على الأولى، سمة إسرائيلية لا تتضح حدودها


بعبارات أخرى، لا يمانع الجيش الإسرائيلي، الذي أنهى كل خياراته العسكرية على مستوى الحرب، أن يلتزم بهدن أو حتى بإعلان دائم لوقف إطلاق النار، على أن يكون له الحق في فعل ما يريد، عندما تدعو الحاجة الأمنية إلى ذلك – والمقصود هنا، منع أو تصعيب عودة حركة «حماس» وحركات المقاومة في قطاع غزة، إلى ما كانت عليه -، وهو ما يمكن تبريره بخرق «حماس» الاتفاق، سواء حصل الخرق أم لاء. وفي المقابل، يجد رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، نفسه معنياً باستمرار الحرب، وإن اسمياً، كي يمنع عن إسرائيل وعن نفسه تبعات الإقرار بفشلها في تحقيق أهدافها، ولا سيما في ظل العجز عن التعامل مع تحديات «اليوم التالي»، وتحديداً الجهة التي ستتولى السيطرة على القطاع، وتتابع مهمة «اقتلاع» المقاومة بالوكالة عن إسرائيل. وبالنظر إلى أن الكلمة الأخيرة في الكيان هي للمؤسسة السياسية، وإن استندت بلورة القرارات إلى توصيات المؤسسة الأمنية، فإن نتنياهو يستغل هذه الميزة في عرقلة الإعلان عن إنهاء الحرب.
وعلى أي حال، يعد التجاذب بين المؤسستين العسكرية والسياسية، مع تقدم للأخيرة على الأولى، سمة إسرائيلية لا تتضح حدودها، وتبقى متحركة وفقاً للظروف والمتغيرات. لكن الأكيد أن العسكر غير معني باستمرار الحرب، وذلك بالنظر إلى أن كل الخيارات العسكرية جرى استهلاكها إلى حدها الأقصى. وفي المقابل، فإن لدى نتنياهو مانعَين من مجاراة الجيش: الأول يتعلّق بمصلحة «إسرائيل – الدولة»، وهو المضرة الإستراتيجية التي ستلحق بها في حال الاعتراف بفشل الحرب؛ والثاني يتصل بمصلحته الشخصية، كونه سيعود، في اليوم التالي، إلى المواجهة القضائية بلا استناد إلى أي إنجازات، وهو ما يضغط عليه لفعل ما يمكن فعله لتحقيق إنجازات في الحرب، أو إدامتها ما أمكن. على أن أياً منهما ليس معنياً بأن يطلب هو، في العلن، إنهاء الحرب. ولذا، فإن كلاً منهما يريد أن يرمي كرة القرار إلى الآخر؛ فيقول نتنياهو: إن كان الجيش قاصراً عن تحقيق الأهداف، فليعلن ذلك وليتحمل مسؤولية أي قرار يتخذه، فيما الأخير يحمّل نتنياهو مسؤولية الانطلاق إلى حرب لم يُدرس يومها التالي، بل ومُنع البحث فيه.
لكن، هل يمكن لإسرائيل أن تبقي على خيار الحرب، مع إنهاء القتال بصورته الكبرى؟ الإجابة هي نعم ولا. نعم، بالاستناد إلى أن الخيار العسكري انتهى بالفعل، وبات يستوجب خيارات أخرى، سياسية أو عسكرية أو أمنية أو هجينة، من أجل استكمال أهداف الحرب. وإذا كان تأجيل هذا الاستحقاق ممكناً إلى أن تتبلور مقدماته، فإن ذلك مرتبط بانتفاء الثمن أو محدوديته، وهو ما لا تتمتع به إسرائيل حالياً؛ إذ من شأن الأثمان في الأرواح والممتلكات، والتقديرات المتشائمة إزاء المستقبل، والتأثيرات السلبية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى مستوى العلاقات الخارجية، وتحديات جبهات المساندة وإمكانية اتساعها إلى مواجهات شاملة، وغيرها من العوامل غير المنظورة، أن تدفع إسرائيل إلى بلورة «شيء ما» يؤدي إلى إنهاء الحرب. لكن في حال كان الثمن محمولاً، أو بالإمكان تأجيل تداعياته إلى المستقبل، فسيكون عندها هامش المناورة أوسع، ولن يندفع العسكر، والحال هذه، إلى تصعيد ضغوطه على المستوى السياسي، الذي سيجد نفسه هو الآخر قادراً على تأجيل قراره في انتظار فوائد ومكاسب، يراهن على إمكانية تحققها عبر مواصلة الحرب، وإن بوتيرة مختلفة.

يحيى دبوق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *