من كورسك إلى غزة: استعادة هيبة الإمبراطورية متعذّر
أصدر «مجلس السوفيات الأعلى»، في الـ26 من كانون الأول 1991، القرار «H – 142» الذي اعترف فيه بـ«استقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة»، الأمر الذي عنى عمليّاً تفكّك الاتحاد السوفياتي وانحلاله، وأدى من حيث النتيجة إلى انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العالمية وولادة نظام دولي جديد ذي قوام أحادي. وتلك اللحظة هي التي التقطها فرنسيس فوكاياما، في كتابه «نهاية التاريخ»، ليعلن أن الولايات المتحدة باتت تمثّل «روح العصر»، وأن ذلك هو أكبر مصادر قوّتها التي تخوّلها لأن تسود العالم، معلناً في الآن ذاته «نهاية التاريخ»، التي قصد بها نهايته كاتجاه وليس كأحداث. والراجح، أن فوكوياما كان قد استنسخ في مقولته هذه، ما قاله الفيلسوف الألماني، فريدريك هيغل، عندما شاهد نابليون بونابرت على حصانه في مدينة يينا الألمانية عام 1806، من أن «روح العصر تجلس فوق صهوة حصان». وبهذا الفعل، يمكن الجزم أن فوكوياما، باستنساخه المذكور، كَمَن أراد القول إن «روح العصر الآن، تجلس فوق انهيار العالم».اهتزّت «الهيبة» الأميركية ما بعد هجمات الـ11 من أيلول 2001، وما تلى الحدث من مراسيم وقرارات من النوع الذي يثخن الجراح في جسد الإمبراطورية التي لم يكن قد مضى أكثر من عقد على تربّعها على عرش السيادة العالمي. وفي غضون نصف عقد، كشفت التداعيات عن بنيان يعوزه الكثير لكي يستطيع البقاء على ذلك العرش؛ فحربا أفغانستان 2001، والعراق 2003، أظهرتا أن هذا البنيان يمتلك، من دون شك، قوة تدميرية هي الأعتى في العالم، لكنه لا يمتلك القدرة على نسج الخيوط ووضعها في قوالب داعمة لنُسجه التي كانت قد بدأت الدخول في طور التآكل والتلف. وبشكل ما، يمكن القول إن ولايتَي باراك أوباما (2009 – 2017) لعبتا دور «المرمّم» لتلك النُسج، حتى إذا جاءت حقبة دونالد ترامب (2017 – 2021)، بكل ما حملته من تخبّط وصدام على ضفتَي الداخل والخارج، وبكل ما قذفت به إلى ما وراء الأطلسي من مشاعر الخذلان والقلق، تكشَّفَ أن ما جرى ترميمه بسيط، ولم يطل طبقة «الأدمة». ومع ظهيرة السادس من كانون الثاني 2021، والتي شهدت اقتحاماً بربرياً لمبنى «الكابيتول»، كانت «الهيبة» كلّها قد غدت في الميزان؛ فـ«البربر» جاؤوا هذه المرّة من الداخل وليس من الخارج، كما جرى مع روما عام 410، والذي حمل الناس، في حينه، على الاعتقاد بأن العالم وصل إلى نهايته!
لا غزة سوف تنكسر، ولا بوتين في وارد أن يقبل الهزيمة التي تجرّعها كيانه قبل نحو 35 عاماً
كان خروج دونالد ترامب فرصةً مشروعة لاستعادة الترميم؛ لكن خلَفه لم يستطع فعل الكثير في هذا السياق. فعهده، البادئ بمناظر «الهاربين» في مطار كابول بدءاً من منتصف آب 2021، وصولاً إلى نهايته التي شهدت عودة «طالبان» إلى الحكم بطريقة توحي بأن نظامها «مصمَّم» أصلاً لقيادة هذه المرحلة من تاريخ أفغانستان، والمنتهي بشيخوخة صارخة تشير بوضوح إلى «شيخوخة» الإمبراطورية فحسب، بدا فضائحياً لهذه الأخيرة التي تدّعي أنها لا تزال تمسك بمفاتيح العالم، فيما العهد إيّاه كان قد شهد ما بين حدَّيه، البداية والنهاية، طعنات عدة كانت تصيب «هيبة» الكيان في الصميم. لكن الأبرز منها اثنتان: أولاهما في 24 شباط 2022 الذي شهد «تمرّداً» روسيّاً على تلك «الهيبة» وتصميماً أيضاً على عدم العودة إلى «حظيرتها» من جديد؛ وثانيهما في 7 تشرين الأول 2023، الذي شكّل ضربةً قاصمة لـ«الهيبة» التقنية العسكرية، طاولت ذراع «الوكيل» الذي تمثّل «هيبته» جزءاً لا ينفصم عن هيبة «الأصيل»، ناهيك بأن التاريخ المذكور شهد وقوع أسرى وقتلى من جنود يحملون «جنسية» الإمبراطورية ذاتها التي انساحت هيبتها تماماً كما يحصل عند انسكاب ماء على سطح زجاجي، حيث يتّخذ السائل مساراً متسارعاً في سياق بحثه عن قاع مناسب لإعادة تجميع قطراته من جديد.
سارت تمرحلات الحرب في أوكرانيا، على مدى سنتيها الأوليَين، بطريقة توحي بإمكان أن تحقّق روسيا انتصاراً جزئياً؛ فخرائط الميدان كانت تشير إلى وقوع منطقة الشرق الأوكراني كلّه تحت السيطرة الروسية، في الوقت الذي تزايدت فيه الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي تجاه الصراع، والحلول الأنجع التي تضمن بقاءه حبيس الجغرافيا التي قام عليها، بل إن «عدوى» تلك الانقسامات ضربت الداخل الأميركي نفسه، الأمر الذي أمكن لحظه عبر المواقف المتباينة، ما بين جمهوريين وديموقراطيين، حول تمويل الحرب. وفي الغضون، لم تستطع «حرب الإبادة» التي يشنّها «الوكيل» على الشعب الفلسطيني كسْر إرادة هذا الأخير، بل إن أحد عشر شهراً من ذلك الفعل وضعت الفاعل في «أقفاص» المنظمات الدولية التي صُمّمت خصيصاً على مقاس «المتمردين». ولوهلةٍ، بدا أن الإمبراطورية ماضية في مسار من شأنه أن يكرّس المزيد من أوجاعها، ويضعها أمام واقع جديد لا يمكن تجاهله.
بشكل ما، يمكن القول إن شهر تموز الفائت كان مفصلياً لواشنطن في مراجعة حساباتها التي تنحصر هنا في محاولة استعادة «الهيبة»، كأحد مظاهر القوة، أو ما تبقّى منها، والفعل لا يكون إلا عبر الساحتَين اللتين لعبتا دور «المقص» في نسيجها؛ فجرى استدعاء بنيامين نتنياهو، بعد طول ممانعة في استقباله، ليُصار إلى اتفاق يقضي بضرورة إعادة رسم ملامح «القدرة الكلية» للذراع، وهو ما تمظهر في سلسلة الاغتيالات التي طاولت رموزاً في المقاومة جنباً إلى جنب توجيه ضربات موجعة إلى خصوم الإمبراطورية التقليديين. وعلى الضفة الأوكرانية، كانت المراجعات تقول بوجوب تحقيق خرق فيها يكون من شأنه إعادة التوهّج إلى الصراع، بحيث تبدو الصورة القائلة بإمكان تحقيق نصر جزئي لموسكو، محض أوهام لا بديل لروسيا من الإقلاع عنها. هنا، يمكن القول إن واشنطن أرادت، عبر الساحتَين اللتين لطّختا «هيبتها» بصباغ أسود كثيف، العمل على استعادة صورة هذي الأخيرة التي لم تكن بيضاء تماماً، وإنما رمادية تميل نحو السواد. والمؤكد أن الفعل، على كلتا الضفتَين، لن يعطي النتائج المرجوة منه؛ فلا غزة سوف تنكسر، ولا بوتين في وارد أن يقبل الهزيمة التي تجرّعها كيانه قبل نحو 35 عاماً، وأفضت إلى ما أفضت إليه. جلّ ما في الأمر، أن «المسعى» سيعاود من جديد السير على رِتْمه الأول بُعيد فقدانه لـ«التوهّج» الذي غالباً ما يكون مرحلة سابقة لارتماء فتيل الشمعة على بقاياها الأخيرة. أقلّه هذا ما تقوله تجارب التاريخ التي تؤكد استحالة بسْط قوة ما لهيمنتها على العالم، وإن حدث ذلك، فيكون لوقت قصير.
عبدالمنعم علي عيسى