الخليل تجدّد مفاجآتها: جنوب الضفة يؤازر شمالها
رام الله | وجّهت المقاومة في مدينة الخليل صفعةً جديدة إلى منظومة العدوّ الأمنية والعسكرية، في ذروة استنفارها العسكري والاستخباري جنوب الضفة الغربية، من خلال قيامها بعملية نوعية قُتل فيها ثلاثة ضباط من شرطة الاحتلال. ويعيش جنوب الضفة، منذ مساء الجمعة الماضي، استنفاراً عسكرياً غير مسبوق، فَرضت قوات الاحتلال بموجبه حصاراً مطبِقاً على مدينة الخليل، في أعقاب عمليتَي التفجير المزدوجتَين في مجمع «غوش عتصيون» الاستيطاني، ومستوطنة «كرمي تسور». وتدلّ العمليات الثلاث في الخليل، التي نُفّذت في أقل من 48 ساعة، على صحوة «أسد الجنوب»، وانتقال التصعيد إلى جنوب الضفة، وهو لطالما شكّل أحد هواجس المنظومة الأمنية الصهيونية.ووفقاً للتقديرات الأمنية الإسرائيلية، فإن انفجار الأوضاع في الجنوب سيكون مدوّياً وذات تداعيات خطيرة، نظراً إلى وفرة السلاح في أيدي الفلسطينيين هناك، فضلاً عن الانتشار الكثيف للمستوطنين وجنود الاحتلال، الذين يوفّرون حمايةً للمستوطنات والمواقع العسكرية، إلى جانب كثرة الشوارع الاستيطانية التي يسلكها المستوطنون ويمكن أن تشكّل أهدافاً محتملة.
واستناداً إلى تلك الأسباب والمعطيات، نُفّذت عملية ترقوميا، بعدما تمكّن مقاوم من إطلاق النار من مركبة مسرعة على مركبة للشرطة الإسرائيلية بعد تجاوزها على شارع التفافي، باستخدام بنادق آلية، وهو ما يفسّر مقتل كل من كان على متنها، فيما تحدّثت مصادر إسرائيلية عن أنه جرى العثور على بقايا 11 رصاصة فقط. ووفق ما نقله تلفزيون «الجزيرة» عن مصادر، فإن منفذ عملية إطلاق النار عند معبر ترقوميا، هو الشهيد مهند العسود من سكان بلدة إذنا في الخليل، والذي كان عنصراً في جهاز حرس رئيس السلطة الفلسطينية، واستقال عام 2015. ومن جهته، أفاد ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، بأنه «تم القضاء على المشتبه فيه في عملية إطلاق النار على سيارة الشرطة في بلدة إذنا، بعدما تحصّن داخل منزل في الخليل».
وتشي العملية بأن هناك خلية مدرّبة ومنظّمة وذات قدرات عالية، رجّحت المصادر الإسرائيلية أن تكون تابعة إما لـ»حماس» أو «الجهاد الإسلامي». ويَظهر أيضاً أن المقاومين خطّطوا جيداً لتنفيذ الهجوم، مع رصد ومراقبة تحرّكات قوات الاحتلال، إذ نُفّذت العملية بعد نصف ساعة فقط من فتح إحدى البوابات العسكرية، فيما تمكّن المنفّذون بعدها من الانسحاب من المركبة المستخدمة، من دون معرفة ما إنْ كانوا قد استقلوا مركبةً ثانية أو انسحبوا مشياً على الأقدام، وهو ما يبيّن معرفتهم الجيدة بالمنطقة، وربما وضعهم لخطّة بديلة، وخاصةً أن مكان التنفيذ لا يبعد سوى كيلومتر واحد عن حاجز ترقوميا الذي يعدّ معسكراً ضخماً لجيش العدو.
يمثّل جنوب الضفة الخاصرة الرخوة لإسرائيل، إذ تستطيع أن تلحق خسائر مهولة بالعدوّ
وعلى رغم الاستنفار الذي تعيشه الخليل منذ الجمعة، دفع جيش الاحتلال بتعزيزات عسكرية ضخمة إلى منطقة العملية، فارضاً حصاراً على بلدة إذنا (شمال غرب الخليل) باعتبارها الأقرب إلى مكان العملية، وسط استمرار البحث عن المقاومين. على أن الهجوم وقع كالصاعقة على المنظومة الأمنية، والتي لم تستفق بعد من العمليتَين التفجيريتَين في «غوش عتصيون» و»كرمي تسور . ووصل وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، إلى مكان الهجوم وهو يرتدي درعاً ضدّ الرصاص، حيث أطلق تصريحات طالب فيها بإعدام الأسرى. وشنّ قادة المستوطنين في الضفة الغربية، بدورهم، حملة تحريض واسعة ضد الفلسطينيين، إذ قالوا، وفق ما نقلت عنهم مصادر إسرائيلية، إن «تسلسل الأحداث الأخيرة يُظهر أنه لا يوجد خيار: سيتعيّن علينا جلب قوات كبيرة والدخول في عمليات واسعة النطاق في جنوب الضفة الغربية من أجل السماح لنا بالعيش حياة آمنة».
وجاءت هجمات الخليل بعدما تعهّدت المقاومة، وتحديداً «كتائب القسام»، بتكثيف العمليات الفدائية رداً على العدوان الإسرائيلي في غزة والضفة، التي تستمر الحملة على شمالها، مسفرةً إلى الآن عن استشهاد نحو 22 فلسطينياً، إلى جانب مقتل وإصابة جنود إسرائيليين في جنين. وازدادت، مع هذه الهجمات، المؤشرات الكثيرة إلى إمكانية انفجار الأوضاع في الضفة، مع ظهور سيناريوات اعتقدت إسرائيل أنها انتهت منذ الانتفاضة الثانية. كما أنها حملت دلالات عدة، أبرزها الفشل الاستخباري والعملياتي الإسرائيلي، وغياب القدرة على الاستجابة للتحديات الأمنية، وهو ما تجلّى في الإخفاق في منع العملية أولاً أو توقّعها، فضلاً عن الفشل العملياتي؛ إذ تمكّن المنفذون من الانسحاب، على رغم حالة الاستنفار القصوى، وأيضاً المكان الذي أتمّوا فيه فعلهم.
وتأتي عملية إطلاق النار قرب ترقوميا في ظلّ استمرار العدوان على شمال الضفة الغربية، ما يعني أن هذه الأخيرة من شمالها إلى أقصى جنوبها تزداد سخونة. وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أن «الضفة الغربية لم تَعُد الساحة الثانوية»، وأن محاولات العمليات الاستشهادية الأخيرة التي فشلت، «تمثّل تصعيداً كبيراً قد يشير إلى عودة العبوات الناسفة من الانتفاضة الثانية. ومع وجود معظم القوّة المدربة من الجنود النظاميين والاحتياط في غزة وعلى الحدود الشمالية، فإن فتح جبهة رئيسيّة في الضفة الغربية يشكّل تحدياً حقيقياً».
كذلك، تظهر العملية الأخيرة أن محاولة إسرائيل حصر حالة التصعيد في شمال الضفة قد فشلت، وأن هذه الحالة لا تفتأ تتمدد، مع دخول الخليل بشكل خاص على خط المواجهة، وهو ما يخالف التوقعات والتقديرات الأمنية والاستخبارية. وإذا ما صدقت هذه الرؤية، فإن إسرائيل باتت أمام جبهة إضافية يمكن أن تشكّل بيضة القبان، كونها تمثّل الخاصرة الرخوة، إذ تستطيع أن تلحق خسائر مهولة بالعدو، وتؤسّس لحرب استنزاف كبيرة. أيضاً، تشي العملية بأن المقاومة ربما استطاعت تأسيس خلايا نائمة، وذخّرتها بشكل جيد، لتفعيلها في ظرف ووقت محدّدَين، ما يعني أن المقاومة التي برزت في شمال الضفة خلال الأعوام الماضية، قد تأخذ أشكالاً أخرى في جنوبها نظراً إلى اختلاف المعطيات والجغرافيا.
احمد العبد