أخبار عربية ودولية

مفارقات مصرية على هامش الحرب: الإسرائيليون مرحَّب بهم… وأنصار المقاومة مرهَّبون

القاهرة | تسلك القاهرة مساراً ديبلوماسياً رافضاً للعدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان، بصرف النظر عن تزايد حجم تبادلها التجاري مع «تل أبيب» خلال الحرب. وفيما تمارس الحكومة في الداخل المصري، في المقابل، تضييقاً أمنياً على جميع أشكال التضامن مع فلسطين ولبنان، جاءت آخر حلقات مسلسل الترهيب هذا، مساء الأحد الماضي، عندما انتشر العشرات من قوّات الأمن في محيط ميدان طلعت حرب وسط القاهرة، وأسفل مقر «الحزب العربي الديموقراطي الناصري» وفي محيطه، تحوّطاً من الدعوة التي قدمها «التيار الناصري الموحّد» لإقامة عزاء للشهيد القائد يحيى السنوار، في تكرار لمشهد الترهيب ذاته الذي رافق عزاء للشهيد السيد حسن نصر الله، أقامه «العربي الناصري» في مقره مستهل الشهر الجاري.

وإذ يشير أحد المنظّمين إلى أن إقامة عزاء للسيد نصر الله والقائد السنوار في القاهرة «يؤكد أن المقاومة مذهبنا وأنه لا فرق بين سني أو شيعي طالما بوصلتنا مقاومة الاستعمار»، فهو يؤكد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «ارتقاء السيد نصر الله، زعيم حركة التحرر العربية، والقائد السنوار، مهندس الطوفان، في ميدان المعركة، يعكس حجم بطولة وتضحية كل منهما». وفي السياق نفسه، يشير منظّم آخر إلى أن «تخوّف قوّات الأمن من خروج الحضور ليقوموا بأي شكل من أشكال التضامن خارج مقر الحزب يدفعها إلى الانتشار الكثيف في محيطه كما رأينا خلال عزاء نصر الله والسنوار»، مضيفاً أن هذه القوّات «تنتشر أسفل مقر الحزب وفي محيطه كل يوم أربعاء تخوّفاً من الاعتصام الذي ننظمه بشكل أسبوعي داخله». كما يشير إلى أن الأمن «يمنع المارين في الشارع من المشاركة أو حتى تصوير شرفة المقر التي نقف فيها ونهتف ونرفع أعلام فلسطين ولبنان»، مذكّراً بأنه «اعتقلَ خلال اعتصام سابق طفلاً يبلغ 14 عاماً كان قد صعد إلى المقر وأخذ أحد أعلام فلسطين وغادر به»، مضيفاً أن «الحزب تابع الطفل منذ نزوله وأرسل وراءه محامين حتى أفرجت عنه الشرطة بعد ساعات».
وفيما لا يزال ما يزيد على 60 مصرياً قيد الاعتقال بسبب التضامن مع فلسطين ولبنان، بعضهم مر على اعتقاله عام بأكمله، يجول، في الوقت نفسه، المستوطنون الصهاينة في أرجاء مصر تحت لافتة السياحة من دون أي تضييق أو شروط، وهذا ما يثبته إنهاء وزارة الداخلية المصرية خدمة أمين شرطة يعمل في منطقة الأهرامات في الجيزة، السبت الماضي، على خلفية «ارتكابه خطأ مسلكياً»، بحسب بيان صدر الإثنين الماضي. وتوضح ملابسات التحقيق أن أمين الشرطة تشاجر مع سائح بعد تحذيره إياه أكثر من مرة من رفع «العلم الإسرائيلي» والتقاط الصور معه أمام الأهرامات، وانتهى التحقيق بفصل الأمين، على اعتبار أنه لا يوجد ما يمنع سائحاً جاء ضمن وفد سياحي رسمي من رفع علم أي دولة في أي موقع سياحي داخل البلد.
ولم يكن هذا الإجراء الذي اتخذ بحق فرد أمن، الأول من نوعه؛ فلا يزال أمين الشرطة، عبد الجواد السهلمي، معتقلاً منذ آذار الماضي، بسبب صعوده على إحدى اللوحات الإعلانية الكبيرة في منطقة سيدي جابر في الإسكندرية، ورفعه علم فلسطين، وترديده هتافات معادية للرئيس عبد الفتاح السيسي، واتهامه إياه بالخيانة والعمالة، احتجاجاً على موقفه من الحرب المستمرة على قطاع غزة. أيضاً، لا يزال مصير أمين الشرطة، محمد عبد المجيد، مجهولاً، علماً أن الأخير قتل، في مستهل تشرين الأول الماضي، سائحين إسرائيليين في منطقة عامود السواري في الإسكندرية، بعد تحذيره إياهما أكثر من مرة بسبب رفعهما «العلم الإسرائيلي» والتقاط الصور معه.
ولا تنحصر ممارسات الحكومة تلك في أرض الواقع فحسب، بل تمتد إلى الإعلام عبر إعلاميين ينطقون بلسانها على شاكلة أحمد موسى مثلاً، الذي شنّ أخيراً هجوماً على جميع الذين نعوا القائد السنوار بعد يوم من استشهاده، متهماً إيّاه وحركة «حماس»، في خطاب مبطّن، بالاشتراك في عمليات إرهابية استهدفت جنود الجيش المصري، مثل «كمين البرث». وفي وسائل التواصل الاجتماعي، المكان الوحيد الذي يمكن للمصريين أن يعبّروا فيه عن آرائهم، كان لافتاً تداول وقائع اشتراك «حماس» والشهيد القائد السنوار في الحرب على الإرهاب التي شنّتها القوات المسلحة المصرية في سيناء، والتي سلّمَت «حماس» خلالها عشرات الإرهابيين من غزة للجيش المصري وجهاز المخابرات. وتداول المصريون، عبر تلك الوسائل، صور السنوار بعد استشهاده، ومقاطع من خطاباته ومقابلاته، ولا سيما المقطع الذي نشره جيش العدو للشهيد وهو يرمي طائرة مُسيَّرة بخشبة، بعد أن أُصيب ونفدت ذخيرته، معتبرين أن هذا المشهد يعكس هشاشة الرواية الصهيونية عن اختبائه في الأنفاق والاحتماء بين المستوطنين الأسرى.

الكثير من المصريين يعرفون أن العدو الصهيوني خطر وجودي ومصيرهم أن يُلاقوه في معركة مقبلة


وعلى خط موازٍ، وفيما لا يستطيع المصريون أن يعبّروا عن آرائهم في الأوضاع داخل البلد، ولا أن يتضامنوا مع فلسطين ولبنان عبر التظاهر أو الوقفات الاحتجاجية الصغيرة، ولا حتى عبر رفع علم فلسطين على شرفات المنازل، تأتي المواقف الديبلوماسية المتواضعة، والتي تنتهي دائماً إلى فشل في الوصول إلى شروط مرضية للتفاوض. كما تلتزم الحكومة بما جاء في اتفاقية «كامب ديفيد» ومعاهدة «السلام»، وتُنسِّق تحركات الجيش في سيناء مع الكيان الصهيوني، ويتزايد ارتباطها التجاري معه بوتيرة متسارعة عن مدة ما قبل انتفاضة 25 يناير، وتُترَك أرض البلاد مرتعاً للمستوطنين الصهاينة، ويمنع أي شكل من أشكال التضامن مع فلسطين ولبنان، ويُرهب كل من يتجرأ على التضامن أو يعتقل لمدة غير محددة.
مع ذلك، فإن الناس في المقاهي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لا يفتؤون يتداولون قضيتي غزة ولبنان، فيما يعبر البعض منهم صراحة عن رفضهم طريقة تعامل الحكومة مع حرب الإبادة الجارية ضد الفلسطينيين واللبنانيين. ورغم ممّا شهدته الأيام والأسابيع الماضية من بعض المظاهر السلبية، من مثل حضور الآلاف حفلاً غنائياً أحياه تامر حسني وسط تجاهل للمجازر المرتكبة يومياً في فلسطين ولبنان، تظل حقيقة أن «السلام» لم يجلب لمصر اقتصاداً قوياً ولا استقلالية على المستويين السياسي والعسكري، وإنما مزيداً من الفقر والإرهاب والاعتمادية والتبعية، حاضرة بقوة. كما أن الكثير من المصريين يعرفون في قرارة أنفسهم أن العدو الصهيوني ليس مجرد عدو تقليدي يمكن التوصل معه إلى علاقة مستقرة «نسبياً»، وإنما هو عدو وجودي مصيرهم أن يُلاقوه في معركة مقبلة بلا شك.

طه الغريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *