تقاذف أعباء «الرَوْسنة»: الدرونز والطبقة السياسية الإسرائيلية
تحدثنا قبلاً عن نهاية مجتمع العقلانية الاقتصادية (مجتمع «الاقتصاد، الاقتصاد، الاقتصاد» الذي تذمّر منه زيلنسكي، مفتتحاً الردّة إلى ما كان يُفترَض أنه رجعيّةُ مجتمعِ البطولة والتضحية، بعد أن كانت مجتمعاتنا هي التي تُتَّهَم بالرجعية لأنها ليستْ اقتصادوية وتَعيش على أفكار البطولة بدلاً من ذلك)، وعن نهاية المجتمع الحسّاس تجاه الخسائر البشرية في صفوفه بعد حرب أوكرانيا حين اكتَشفتْ الولايات المتحدة أنه يمكنها تسليح ما راكمته من دراسات حول هذه المنطقة أو تلك، وأن تحويل الأحقاد الإثنية إلى علم في أقسامها الجامعية قادرٌ على دفْع مجتمعات بأكملها إلى الانتحار حين تَطلب واشنطن منها ذلك. فمُنشئ الهوية ومالكُ المعرفة حولَها هو مالك وجودها الفيزيائي أيضاً (ولذلك إن دمقرطة الإنتاج المعرفي، أي مَنْ يُنتِج معرفةً ذات سلطة عن مَنْ والتفاوض حول هذا الإنتاج، يجب أن تكون أولوية نضالنا). مجتمعات الدول المسماة غربية والمجتمعات التي على حواف «الغرب» كانت بعد الحرب العالمية الثانية تحارب بالتكنولوجيا المتفوقة وبالعقلانية السياسية القادرة على الالتفاف على الخصم وتفكيك جبهته وليس برمي الجنود في أرض المعركة. لكن واشنطن قَرّرتْ اليوم أن المجتمع الاقتصادوي يجب أن يَنتهي، ما عدا في الولايات المتحدة نفسها طبعاً، رغم أن هناك الكثير من الدراسات التي تسعى إلى الإجابة عن سؤال: «لماذا يصوّت البيض الريفيون ضد السياسات الاقتصادية التي تُفيدهم؟» (بمعنى أنه يمكن للبعض أن يفسّر ترامب وجمهوره كردّة على الاقتصادوية). وهو ما يُحيلنا إلى ضرورة مراجعة مفهوم «المصالح الاقتصادية» ورؤيته من منظار أشمل من المِتركس (المقاييس) المعتمَدة حالياً وبالتالي مراجعة الاقتصادوية السياسية دون رفضها بالضرورة بل تجاوزها إلى ما بعدها وليس إلى ما قبلها كما تَفرض الولايات المتحدة على حلفائها اليوم. ليست مصادفة أن تترافق الإبادة بحق الفلسطينيين مع تدنّي الأثر السياسي لمقتل جندي أو مواطن إسرائيلي. الاقتصاد النسبي في قتل المدنيين الفلسطينيين قبلاً كانت ترافقه حساسية أعلى تجاه مقتل المواطنين والجنود الإسرائيليين. لا يمكن فصل المسارات، هي مسارات معرفية، أي إن الأمر غير مرتبط بنظام أكثر أو أقل أخلاقية بل بتعريف الفرد الإنساني في علاقته بالسياسة وكيفية استثماره أو كيف تراكم قيمةً ما عبر وجود الفرد الإنساني أو إعدامه (مثلاً، فوكو تحدّث عن الاقتصاد السياسي للسجن بدل الإعدام متجاوزاً تحليل روتشي وكيرشهايمر حول السجن وأنظمة الإنتاج)؛ أنت إذْ تُلغي الفرد الإنساني عند الطرف الآخر ولا تَنظر إليه ككائن سياسي فإنك بالضرورة تُلغيه في صفوفك في الآن نفسه وتُلغي معه المفهوم السابق للسياسة.
حروب الاستنزاف من أوكرانيا إلى لبنان
هناك نوع من الإجماع بأن أوكرانيا تَخسر معركتها مقابل روسيا، وأن مفاجأة كورسك لم تكن سوى ومضة إعلامية. فروسيا تَقضم الأراضي الأوكرانية ببطء رغم كل الأسلحة والتمويل الذي يصل إلى زيلينسكي، خصوصاً أن القيادة الروسية وَضعتْ شعبها في أجواء تقديم تضحيات بشرية غير محدودة من أجل هزيمة أوكرانيا. ومن الواضح أن بنيامين نتنياهو يسعى منذ بداية الحرب إلى «رَوْسنة» المجتمع الإسرائيلي، وأن الجيش يجب أن يقاتل دون أي اعتبار لمقتل جنوده، تماماً كما تَفعل روسيا في أوكرانيا. لكن السؤال الذي يُطرَح هو: مَنْ سيَتحمّل أعباء الرَوْسنة في المجتمع الإسرائيلي؟ أيُّ الشرائح الإسرائيلية؟ هل نَكتشف أن هناك شرائح اجتماعية جديدة وُلِدتْ (بمعنى أُنشئتْ) أخيراً في إسرائيل؟
اللحظة الإلماعية كانت محاولة اغتيال نتنياهو عبر مسيّرة (بدا واضحاً منذ حادثة المطعم العسكري أن مسيّرات المقاومة ليستْ عشوائية، وهي تحقّق أهدافها بدقة ويصعب إسقاطها). محاولة الاغتيال هذه والمخاوف التي عَبّر عنها السياسيون الإسرائيليون فَتحتْ الباب واسعاً أمام سؤال أعباء رَوْسنة المجتمع الإسرائيلي. روسيا، في المقابل، لم تتعرّض لاغتيالات في صفوف سياسييها، لذلك لا يمكننا أن نتهكّن بدقة كيف تتفاعل الروسنة مع اغتيال القادة السياسيين في إسرائيل. ما يمكن للمقاومة فعله الآن هو التجريب وتحويل اتجاه الثمن المدفوع من شريحة إسرائيلية إلى أخرى، لنرى في النهاية مَنْ هي الشريحة التي سنَجد أنها الأكثر ضعفاً أمام الضغط، أهي الجنود الإسرائيليون الذين يَسقطون على الجبهة دون تحقيق إنجازات جدية ودون أي أثر سياسي لمقتلهم (الرَوْسنة)، أم «المدنيون» الإسرائيليون الذين لا يمكنهم العودة إلى حياتهم الطبيعية وإلى منازلهم (حتى الآن نتنياهو يتجاهلهم رغم شكاواهم، لكنهم غير قادرين على تشكيل جبهة في مواجهته)، أم أفراد النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل (حتى الآن يبدو أنهم الأكثر خوفاً ولا يبدو أنهم مستعدّون لدفْع أثمان الروسنة وبالتالي فإن المقاومة ستضغط من هذا الباب، فالسياسيون الإسرائيليون يريدون العودة إلى المجتمع المقاتل والمضحّي للجنود والمواطنين العاديين وليس لأنفسهم، هم اعتادوا في الحروب السابقة على إدارتها من بُعْد لا أن تطالهم مسيّرات دقيقة في إصاباتها، وهذا يَفتح الباب أكثر تجاه التوتر بين القادة السياسيين والشعب الذي لا منصة تعبّر عنه، أي تبدُّد مفهوم الشعب الإسرائيلي، وهو تبدُّد يتحمّل مسؤوليته الشعب نفسه الذي لم يطالب بحقوق الفلسطينيين). تكاليف الروسنة والإجهاز على الهوموإيكونوميكوس ستكون باهظة سياسياً على المجتمع الإسرائيلي، وكل شريحة تسعى إلى إلقاء أعبائها على شريحة أخرى. المثال الأكثر وضوحاً لـ«الديفرانس» (Différance) عند دريدا، تأجيل عبء الموت عبر تأجيل معناه، أي إزاحة عبء تعريفه إلى شريحة أخرى. هل تَكتشف المقاومة أن استهداف شريحة أخرى من الإسرائيليين باغتيالات الدرونز هي البوابة إلى الضغط السياسي؟
قد يكون الضغط على المواطن الإسرائيلي العادي هو الإجابة، لكن ليس هناك منصة تتحدث باسم «الشعب/الشعوب» الإسرائيلي؛ هذه أولى نتائج الروسنة، إلغاء القيمة السياسية لمقتل المواطن العادي هو نتيجة طبيعية لغياب الشعب. على الأرجح، سيَستيقظ الشعب الإسرائيلي متأخراً للحنين إلى زمن المواطن ذي القيمة السياسية، وسيكون ذلك عملية عشوائية شبيهة بحنين المواطنين الأميركيين إلى زمن «الاقتصاد الحقيقي» ما قبل النيوليبرالي حيث كانت الوظائف مستقرة خلافاً لعدم الاستقرار (precarity) الذي استتبّ بعد ذلك، ما تلاه من فوضى دونالد ترامب، ولن تكون العودة ممكنة، لتبقى ذكرى غير قابلة للتحقّق، تزعزع الاستقرار دون بلوغها.
هناك ولادة للطبقة السياسية الحاكمة في إسرائيل؛ لا يتعلق الأمر بوجود قادة سياسيين، هذا أمر بديهي، بل بتصلُّب طبقة لها ميزات مختلفة عن باقي الشعب. ما يطال الشعب لا يجب أن يطال هذه الطبقة. وما يطال هذه الطبقة هو أمرٌ جلل، خلافاً لمنطق «وحدة الحال» التي يقدّمها اليمين الشعبوي. نتنياهو لم يحاول حتى أن يقول إن ما يَجري على الشعب يَجري عليه، بل هَدّد وتوعّد بردّ استثنائي؛ كان واضحاً أن ما يتهدّده هو من نوع مختلف عما يتهدّد بقية الشعب. بخلاف إسرائيل، لم نرَ هذه القسمة الحادة والنتوء المنفّر لما يُسمى الطبقة السياسية في أوكرانيا مثلاً. من المفهوم أن نَحمل مفهوم التضحية إلى الحدّ الأقصى، نحن الطرف الأضعف عدداً وعتاداً، ولكن ما الذي يبرّر للطرف الذي يَملك كل شيء، حرفياً كلَّ شيء، أن يخفّض «التصنيف الائتماني» لمواطنه؟
كي نأخذ فكرةً إعلامية عمّا كان عليه الفرد ما قبل الهوموإيكونوميكوس (ولذلك أقول علينا أن نتجاوزه لا أن نرتدّ إلى ما قبله)، كانت الدعاية الانتخابية العادية في الولايات المتحدة سابقاً هي صورة للرئيس الأميركي ضخماً يقف في الأعلى على مستديرة تَحملها الطبقة التي تحته من السياسيين، وهم بدورهم يقفون على مستديرة يَحملها العمال والمواطنون. صورة كهذه لم تعد مقبولة اليوم، لكن يبدو أن هذا ما يَحصل بالفعل في إسرائيل.
محمد فضل الله