البقاع الشمالي يغرق بالنازحين بعد «ليلة حـمص»
كأحجار الدومينو، تدحرجت الأحداث في سوريا، فكان يُحسب سقوط المدن بالساعات. لم يصدّق الناس ما يجري، لا السوريون ولا حتى جيرانهم اللبنانيون الذين استفاقوا، أمس، على زلزال من النزوح فاق التوقّعات، خصوصاً في قرى وبلدات البقاع الشمالي الأقرب إلى الحدود مع سوريا. آلاف من العائلات النازحة تدفّقت إلى قرى البقاع الشمالي دفعة واحدة ما بين ليل أول أمس وساعات الصباح الأولى، وتشير تقديرات خلية الأزمة في محافظة بعلبك ــ الهرمل إلى نزوح ما يقرب من 35 ألف عائلة من الساعة الثانية عشرة ليلاً وحتى العاشرة صباحاً، فيما عدّاد النزوح لم يتوقف، وإن كانت الحركة قد خفّ زخمها ليل أمس.
خلال الأيام الأربعة الأخيرة التي سبقت السقوط الدراماتيكي للنظام السوري، كان يسري همس في قرى البلدات الحدودية في البقاع الشمالي حول إمكانية بدء موجة نزوح من المناطق المحاذية التي سقطت في يد الجماعات المسلّحة، غير أنه لم يكن في الحسبان أن يحدث هذا الأمر في ليلة واحدة سمّوها «ليلة حمص». كثر استيقظوا هلعين على زحمة سيارات وأصوات الآليات والجرارات «وعندما سألنا قالوا سقطت حمص ودمشق»، يقول رئيس بلدية شواغير الفوقا والتحتا، محمد حسين الحاج حسن، الذي فوجئ بأعداد النازحين الذين حلّوا على حين غفلة عند الساعة الرابعة فجراً. صحيح أن البعض منهم كانوا قد تحضّروا منذ ساعات الليل الأولى لمثل هذا السيناريو، إلا أن أعداد النازحين فاقت كل تصوّر. وفي هذا السياق، يقول عضو خلية الأزمة في محافظة بعلبك ــ الهرمل وأمين الصندوق في بلدية الهرمل، إبراهيم علّوه، إن ملامح سقوط حمص بدأت منذ العاشرة ليلاً عندما «بدأ انسحاب القوات الحليفة للنظام السوري من حمص وحضور آليات الجيش اللبناني بكثافة إلى الحدود». عند تلك اللحظة، بدأ توافد النازحين… وخلال ساعات كانت قرى البقاع الشمالي قد «فوّلت»، حتى «صار في الهرمل نازحون أكثر من أهل الهرمل أنفسهم»، يقول رئيس بلدية الشربين علي ناصر الدين.
قدّرت خلية الأزمة عدد
النازحين إلى بعلبك الهرمل
بـ 35 ألف عائلة
قبل أن تنقلب الدنيا رأساً على عقب عند الحدود اللبنانية – السورية غرب مدينة حمص، لم تكن الأمور في البقاع الشمالي تشي بحركة نزوح كثيفة من الجانب السوري. اقتصر الأمر في الأيام القليلة الماضية على عدد من العائلات التي نزحت باتجاه قرى القصير وحوض العاصي (وهي قرى يقطنها لبنانيون داخل الأراضي السورية) وإلى مشاريع بلدة القاع ضمن الأراضي اللبنانية. غير أن تسارع وتيرة الأحداث الأمنية في الداخل السوري ليل السبت – الأحد، دفع بالآلاف من السوريين نحو الأراضي اللبنانية عبر المعابر غير الشرعية في حوش السيد علي ومطربا والقصر، في الوقت الذي أُقفل فيه معبر جوسيه. وأشارت مصادر أمنية إلى أن حركة النزوح اقتصرت على خمسة معابر في حوش السيد علي وأربعة في القصير وآخر في مطربا، فيما أُقفل معبرا جوسيه – القاع ومطربا الشرعيان. ومع ساعات الفجر الأولى، كانت طرقات سهلات الماي والهرمل ورأس بعلبك والقاع تشهد زحمة سيارات وآليات نقل متوسطة لعائلات سورية نزحت من قرى محافظتي حمص وحماة وقرى حوض العاصي، ليتواصل تدفق النازحين طيلة يوم أمس وتتوسع وجهة نزوحهم نحو قرى اللبوة والبزالية والنبي عثمان في البقاع الشمالي. وقد استوعبت منطقة الهرمل وحدها ما يقرب من 80% من أعداد النازحين، فيما توزعت النسبة المتبقية على مناطق أخرى، على قاعدة أن من لم يجد في قرى قضاء الهرمل مكاناً للجوء «أكمل طريقه إلى بلدات أخرى»، بحسب رئيس بلدية القصر محمد زعيتر، البلدة التي نزح إليها أكثر من ألفي شخص، بقي منهم بحدود 600 شخص وانتقل الآخرون إلى بلدات أخرى. وهو الأمر الذي حدث في معظم البلدات. مع ذلك، لم يكن ثمة طاقة استيعابية لهذا الكم من جهة، أضف إلى ذلك عدم وجود قرار على الصعيد الرسمي «بأي شيء يخصّ تجهيز أماكن للإيواء»، يقول علّوه. ولذلك، عمدت البلديات إلى فتح الحسينيات والمساجد والكنائس والمراكز الثقافية والترفيهية، فيما بقيت أعداد كبيرة من النازحين على الطرقات. وفي هذا السياق، تتواصل بعض البلديات مع الجمعيات الدولية للعمل على تجهيز مراكز للإيواء، وإن كانت حتى اللحظة الراهنة لم تستقر على قرار.
نزوح سوري – لبناني
لم يقتصر النزوح على العائلات السورية فقط، وإنما جرجر عائلات لبنانية أيضاً تسكن في قرى لبنانية داخل الأراضي السورية، مثل غوغران والسماقيات الغربية وزفتا وجرماش وحاويك وغيرها من القرى، ونزحت ضمن الدفعة الأولى التي عبرت الحدود عند الفجر. وقد لجأ هؤلاء إما إلى بيوت يملكونها في بعض القرى اللبنانية في البقاع الشمالي أو إلى أقاربهم فيها، وهم في غالبيتهم يملكون علاقات اجتماعية وطيدة وعلاقات مصاهرة. وهو ما ينعكس في جزء منه على العائلات السورية النازحة التي نزحت نحو بيوت تجمعها بها علاقة مصاهرة، فيما لجأ جزء آخر إلى معارف له من العائلات اللبنانية «التي نزحت أخيراً بسبب الحرب إلى قرى حمص»، بحسب الحاج حسن.
واللافت في حركة النزوح أنها حملت وجهين: الأول، أن النازحين السوريين انقسموا في معظمهم على مناطق النزوح انطلاقاً من هويتهم المذهبية. وإن كان هذا التقسيم غير مقصود بحسب المعنيين، إلا أنه بدا لافتاً. وثمة من يربط هذا الأمر بعاملي الاطمئنان والأمان، ولذلك كان معظم النازحين نحو قرى البقاع الشمالي المحسوبة على المسلمين في معظمهم من الشيعة من أم العمد والحواش وغيرهما أو من المحسوبين على النظام السوري، فيما لجأ النازحون من القرى المسيحية بمعظمهم إلى بلدة القاع حيث «فتحنا لهم صالة الكنيسة»، يقول رئيس البلدية بشير مطر، لافتاً إلى أنه رغم نزوح عدد كبير إلى البلدة، إلا أن معظم هؤلاء «إما لديهم بيوت مستأجرة هنا أو تربطهم صلة قرابة أو مصاهرة مع عائلات في البلدة وإما نزحوا نحو أماكن أخرى أو عادوا إلى بيوتهم». ولذلك، بقي في القاع «قرابة 200 عائلة تجري مشاورات مع المعارضة لتحديد المسار التالي».
مع ذلك، بدا المشهد في مشاريع القاع أكثر هدوءاً من قرى البقاع الشمالي الأخرى، وكانت قد استقبلت منذ يومين نازحين سوريين من بلدة ربلة، إحدى قرى حوض العاصي المسيحية، عاد معظمهم إلى منازلهم «بعد اتصال المطران بهم من ربلة وتأكيده أنه تواصل مع المسلحين الذين أكدوا له أن السكان لن يتعرضوا لأي نوع من الخطر أو المضايقات»، يقول أحد أبناء القاع من المتابعين لأوضاع النازحين.
أما الوجه الآخر لحركة النزوح، فهو العودة إلى «الديار» حيث إن معظم النازحين السوريين المعارضين الذين لجأوا إلى مناطق محددة، ومنها عرسال مثلاً في البقاع الشمالي، عادوا إلى سوريا مع بدء انهيار النظام فيها. ولذلك مثلاً، بدت عرسال التي كانت حتى الأيام الأربعة الماضية، تحتضن أكثر من 90 ألف نازح سوري، خارج مشهد النزوح، إذ لم تشهد توافداً للنازحين السوريين، وإنما «شهدنا انتقال مسلحين من عرسال باتجاه الجراجير في سوريا لدعم مسلحي المعارضة، وفي اليومين الأخيرين شهدنا احتفالات وإطلاق نار»، يقول أحد أبنائها. وفي السياق نفسه، أشارت مصادر أمنية إلى الأمر نفسه لجهة «رصد تحركات لمسلحين على مدى اليومين الماضيين باتجاه قارة والجراجير داخل الأراضي السورية».
راجانا حمية