سورية بين العثمانية والدولة الكردية
ناصر قنديل
– قوتان كبيرتان تتحكّمان بالمشهد السوريّ عسكرياً من موقع القدرة على الحركة في الجغرافيا، تركيا وكيان الاحتلال، وبالإضافة إلى دوافع مفهوم الأمن الإقليمي لكل منهما وما يترتب عليها من رسم خطوط وأحزمة أمنية، تتصرّف أنقرة وتل أبيب من موقع أن كلاً منهما تحمل مشروعاً إقليمياً كبيراً، بحيث يكون المرء ساذجاً إن اعتقد أن انكفاء المشهد السوري الآخذ في التشكل أمامهما لحساب خطوط حمراء لكل منهما لتسييج أمنها وفقاً لما تراه متاحاً مع بلد فاقد لقدرة المقاومة والمواجهة والاحتجاج، ومشهده السياسيّ يولد في قلب معادلة ترسمها من جهة قوافل اللاجئين يعودون بالملايين من تركيا بقرار تركيّ لم ينسّق مع الشام وتحرجها، ومن جهة مقابلة غارات وتوسّعات إسرائيلية على حساب الجغرافيا السورية والكرامة الوطنية السورية تحرج الشام أكثر، بينما تمثل واشنطن بيضة القبان وضابط الإيقاع الذي لا يبدو مستعجلاً على ترتيب المشهد السوري أو المساعدة في تسريع رزنامة الترتيب، فليس في السياسة رحمة ولا جمعيّات خيريّة، بل مشاريع ومصالح، ولذلك ترمي واشنطن جزرة إلغاء العقوبات وقانون قيصر وتلوّح بجزرة إزالة اسم حركة تحرير الشام وقائدها عن لوائح الإرهاب، ثم تقول إنها تدرس التدرّج في كيفية فعل ذلك.
– السؤال الجوهريّ الذي ينتظر سورية، في ظل وضوح استحالة أن يستثمر أيّ من اللاعبين الثلاثة الكبار في سورية، أميركا وتركيا و»إسرائيل»، على مشروع بناء دولة قوية وقادرة يحكمها السعي لاستعادة وحدة وطنية أصيبت بزلزال كبير، بمقدار ما يسعى كل من هؤلاء اللاعبين إلى الغَرْف من رصيد الوضع الجديد في سورية لتعزيز فرص مشروعه. والمشروع التركي الذي يقدّم أوراق اعتماده للأميركي من خلال ما بذله لتغيير الوضع في سورية، له عنوان هو العثمانيّة، أي جعل أنقرة عاصمة القرار الإقليمي الذي يحفظ ويضمن المصالح الأميركية. وهذا كان موضوع قبول أميركي قبل فشل الربيع العربي على أسوار الشام، ويجب التحقق من مدى ملاءمته لمرحلة ما بعد طوفان الأقصى، التي اكتشفت واشنطن خلالها أن هزيمة «إسرائيل» وحدها هزيمة لأميركا ومشروعها الإقليمي والدولي، وأنه دون انتصار إسرائيليّ يشكل محور التقدّم الأميركيّ في المنطقة، سيصبح أيّ سعي إلى تعديل التوازنات الدوليّة لصالح واشنطن مشكوك فيه. وهذا ما ظهر مع انخراط واشنطن مباشرة بقدراتها التقنيّة والاستخباريّة لتغيير اتجاه الحرب المندلعة بعد طوفان الأقصى عندما ظهر أن «إسرائيل» في الطريق إلى خسارتها، فكانت الحزمة القاتلة التي استهدفت حزب الله وغيّرت الكثير من التوازنات.
– التغيير الذي تريده واشنطن في المنطقة عنوانه موازين تفاوضيّة جديدة مع طهران، على قاعدة أكيدة هي استبعاد خيار الحرب المباشرة الذي يرغب به رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، وتعلم واشنطن أنه مخاطرة بتدمير قواعدها وأساطيلها وإغلاق المضائق ووقف التجارة وتجميد سوق النفط وانهيار الاقتصاد العالمي، بسبب أزمة طاقة استثنائيّة خصوصاً في أوروبا، وفي ظل الاعتماد الإسرائيلي الكامل على واشنطن في التمويل والحماية والرعاية تبقى الكلمة لواشنطن. وما دام المطلوب للتفاوض من موقع قوة مع إيران تغيير الموازين يبقى الرهان الإسرائيلي قائماً على تحويل مشروع إضعاف إيران واستنزافها وتطويقها مدخلاً لحرب لا تستطيع واشنطن تفاديها، وتركيا ليست المدخل المناسب لإضعاف طهران وجلبها إلى طاولة التفاوض بالشروط الأميركيّة، بقدر ما هي صالحة لمشروع تنافس إقليميّ مع إيران، ليس هو المطلوب.
– محاصرة إيران والضغط على تكوينها الاجتماعي والسكاني، له طريق واحد، هو اتخاذ المشهد السوريّ الجديد نحو قيام دولة كردية تهدّد وحدة العراق وتُضعف مكانته، وتتيح حشد الطاقة الكردية المتحفزة لفكرة الدولة في سورية والعراق والتي تربطها علاقات ممتازة بكل من واشنطن وتل أبيب، وتحويلها إلى قوة صلبة، على حساب قيام دولة في سورية، والدولة القائمة في العراق، لأنها رأس الجسر الذي يمكن الرهان عليه لمحاكاة النسيج الكرديّ في إيران، ولكن ذلك لن يتحقق دون أضرار جانبيّة، ليست المخاطرة بانهيار المشهد السوري أقلها خطراً، ومثلها المخاطرة بالدولة القائمة في العراق، حيث مصداقية النهوض الكرديّ لقيام دولة كبرى تشكل لاعباً رديفاً لكيان الاحتلال يستدعي عدم تهيب المخاطرة بوحدة تركيا، وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب قد عبر قبل أحداث سورية الأخيرة عن رغبة بإنهاء وجود قواته في سورية والتخلّي عن الكانتون الكردي، فإن ما جرى سوف يبدل من موقفه، لصالح تعزيز الوجود العسكريّ في سورية والاستثمار بقوة أكبر على المشروع الكرديّ.
– بدلاً من الحلم بتوسيع النفوذ التركي، على الرئيس التركي رجب أردوغان الاستعداد لمرحلة تنزع فيها من يديه مكاسب المشهد السوريّ الى حدود دنيا هي مصالح أمنيّة في الشمال السوري، والاستعداد لمواجهة وضع متفجّر مع أكراد تركيا، بعد تكريس الموقع المرجعيّ للمسألة الكردية في الرؤية الأميركية المقبلة، وليس مجرد مصادفة أن يتحدث الإسرائيليون بعد أحداث سورية، عن ممر داود الذي يعني قيام دولة درزيّة جنوب سورية ودولة كرديّة في شمالها، يربطهما ممر التنف.