ترامب يشعل النار… ويرحل!
منذ ما قبل وصوله إلى البيت الأبيض، أعطى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إشارات واضحة عن سياساته المستقبلية تجاه الشرق الأوسط، و«لا اكتراثه» للتفاصيل في هذه البقعة من العالم. وتقتضي تلك السياسة دعماً مطلقاً لإسرائيل، وخروجاً أميركياً سريعاً من المشهد اليومي للفوضى الأزلية في المنطقة، بعد ضمان إخراج القوى الدولية والإقليمية المناوئة للأميركيين من دائرة التأثير، والتفرّغ لمعضلات المحيط الهادئ والداخل الأميركي.
وإن كان ترامب قد أكمل ما بدأته إدارة الرئيس جو بايدن، من تقديم الدعم العسكري والسياسي الكثيف والمباشر لإسرائيل في عملياتها ضد غزة والضفة ولبنان، إلّا أن إدارة بايدن تمسّكت بالحدّ الأدنى من السيطرة على القرار الإسرائيلي في ما خصّ إيران – مثلما تحاول أن تفعل دائماً الإدارات الديمقراطية -، وإشراف كامل على تفاصيل تحركات الحلفاء والخصوم في الإقليم. أما ترامب، فقد ترك حرية الحركة لإسرائيل في الملفّ الإيراني، وحضّر مناخ الحرب على طهران، سواء أراد ذلك أم لم يرد.
فالتخبّط الأميركي في التفاوض مع الإيرانيين، والتّقلب في المطالب، وإن بدا استراتيجية منسّقة من فريق التفاوض الأميركي في إدارة ترامب، أظهرا قلّة خبرة فريق الرئيس الأميركي في هذا الملف، وحول ما يمكن أو يجبُ الوصول إليه عبر المسار الدبلوماسي. كما أظهر عجزاً عن تسديد وعد واحد من وعود ترامب على الأقل، لناحية منع اندلاع حرب إسرائيلية ــ إيرانية، خصوصاً أن تعهداته بإيقاف الحرب على غزّة والحرب في أوكرانيا قد سقطت، والدعم الأميركي لأوكرانيا مستمر، ولو بشكل أقل من ذلك الذي قدّمته إدارة بايدن. والأمر نفسه ينسحب على الاتفاق الأميركي مع «أنصار الله»، الذي شكّل بالنسبة إلى إسرائيل، عامل قلق من إمكانية قيام ترامب بصفقات أحادية سريعة، ما دفعها إلى التحرك المنفرد مراراً ضد اليمن.
والآن، يقف ترامب أمام الحرب الإسرائيلية على إيران ــ بينما يدّعي الجيش الأميركي بأنه ينقل الأسلحة إلى المنطقة لكي يفتح الاحتمالات أمام الرئيس الأميركي ــ ، من دون أن يطلب إنهاء القتال من إسرائيل، التي قطعت مساره الدبلوماسي وتفتح الشرق الأوسط على احتمالات مجهولة؛ وهو يتردّد أيضاً في المشاركة في المعركة لكي لا تتعرّض قواعده ومصالح بلاده في المنطقة لهجمات إيرانية. والواقع أن كلا الخيارين يعني أن ترامب خرج من أوكرانيا، وشارك في أكبر حرب إسرائيلية في المنطقة ضد إيران، لطالما تفاداها الديمقراطيون، الذين سيعودون في الانتخابات النصفية مستفيدين من تراكم فشل وعوده، كاختبار أولي لمعركة الرئاسة بعد ثلاث سنوات ونصف سنة.
وتخفّف مخاوف الحلفاء في الخليج من اندفاعة ترامب للمشاركة في الحرب ضد إيران واستمرار الهجمات الإسرائيلية عليها، ولا سيّما أن دول الخليج عمدت في المرحلة الماضية إلى البحث عن المصالح المشتركة مع إيران وتقليص التوتر الإقليمي معها، بانيةً على تراكم المسار السعودي ــ الإيراني الذي بدأ في الصين. كما أن استمرار الاشتباك الإسرائيلي ــ الإيراني، واندلاع اشتباك إيراني ــ أميركي، سيضعان تلك الدول في موقف صعب، سواء لناحية الانعكاسات العسكرية والاقتصادية والسياسية والبيئية المباشرة لاستهداف المفاعلات والمنشآت النووية الإيرانية، أو لجهة الاستهداف الإيراني للقواعد الأميركية في الخليج وإغلاق مضيق هرمز.
لكن في المقابل، تشجّع النجاحات الإسرائيلية، ترامب، على انتظار تعب الجمهورية الإسلامية للانقضاض عليها والمشاركة الفعلية مع إسرائيل، ولا سيّما في ظل الموقف الغربي المتطرف ضد إيران، والذي ظهر في اجتماع مجموعة دول السبع أو في التحركات البريطانية والألمانية المباشرة. والأرجح أن ترامب سيحاول استثمار تدخّله العسكري لتعزيز صورته المفضّلة كرجل حاسم ومنتصر، في انتزاع تنازل كامل من إيران لتحقيق «إنجاز تاريخي»، بعد تراكم إخفاقات الداخل.
هذه الاستراتيجية الأميركية «اللامبالية» مقارنة مع سياسة الديمقراطيين، تترك فجوات كبيرة خلفها وتضيف فوق الفوضى الحالية أضعافاً مضاعفة. فالتخلي عن سياسة «الضامن الأمني»، والتحوّل إلى دور «المحرّك (المُجَمِّع) الأمني» التي يروّج لها قائد القيادة المركزية للجيش الأميركي، الجنرال مايكل كوريلّا، يعني شيئاً واحداً في الظروف الحالية، وهو اشتداد التجاذب الإقليمي وسباق التسلّح بين القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية، على حساب الآخرين، من دون أن يكترث الأميركيون للعواقب أو النتائج، طالما أن الجميع يلعب تحت السقف الأميركي المطلوب في المعركة الاستراتيجية مع الصين.
ولعل أسرع المؤشرات ظهوراً على المبادرات والمخاوف الإقليمية، هو حديث الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حول ضرورة التسلح وتطوير الصواريخ في تركيا، وذلك تعليقاً على الاعتداءات الإسرائيلية على إيران؛ وهو ما يترافق مع النشاط التركي العسكري المتزايد في سوريا وشمال أفريقيا. ومن البديهي أن باقي القوى الإقليمية ليست بعيدةً عن التفكير التركي، إلا أنها لمّا تعلن بعد عما تنوي القيام به. وفي المحصّلة، قد لا نكون بعيدين عن العودة إلى مرحلة التنافس الإقليمي على النفوذ في المسارح الأضعف، خصوصاً هنا في شرق المتوسط، ولا سيما أن عاصفة انهيار النظام السوري لما يهدأ غبارها بعد.
فراس الشوفي