هزيمة تاريخية للمحافظين: بريطانيا في عهد يسار زائف
لندن | بحلول العاشرة من صباح أمس، كانت بريطانيا تلقي عن كتفَيها عبء أربعة عشر عاماً كارثيّة من هيمنة “حزب المحافظين” (يمين الوسط) على الحكومات، وتتلفّع بالأحمر، لون “حزب العمل” (وسط)، وذلك بعدما أسفرت ليلة الانتخابات العامة، الخميس، عن هزيمة مذلّة للحزب الحاكم، فقد على إثرها أكثر من 250 مقعداً، من أصل 345 كان يسيطر عليها في مجلس العموم المنحلّ، انتقلت في معظمها إلى “العمل”، الذي حصد أغلبيّة مريحة تؤهّله لتشكيل الحكومة منفرداً، وتولّي زعيمه، السير كير ستارمر، منصب رئيس وزراء حكومة جلالة الملك، للسنوات الخمس القادمة. وتُعدّ هذه النتيجة الأسوأ لـ”المحافظين” في تاريخ الحزب خلال 200 عام، مع خسارة العديد من قادته مقاعدهم البرلمانية، بمَن فيهم 11 وزيراً في الحكومة الحالية، ورؤساء وزراء سابقون، فيما لم يَعُد له نواب خارج إقليم إنكلترا، ما ينزع عنه تالياً صفة “الحزب الوطني”. على أن تهشّم قاعدة التأييد لـ”المحافظين”، بعد خمس حكومات متعاقبة أوصلت البلاد إلى حالة يرثى لها بفعل التراجع الاقتصادي والتفكّك الاجتماعي، أنتج، إلى انتصار مرشّحي “حزب العمل” الذين اكتسحوا المجلس بـ 412 مقعداً (بزيادة 214 مقعداً عن المجلس المنحلّ، وأكثر من الحد المطلوب للفوز بالأغلبيّة، أي 326 مقعداً)، رابحين كثراً، إذ تمكّن “حزب الليبراليين الديموقراطيين” الوسطي من الظفر بـ71 مقعداً (بزيادة 63 مقعداً)، بما فيها مقاعد شغلها رئيسا الوزراء السابقان ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، ليستعيد بذلك مكانة فقدها لبعض الوقت، كثالث أكبر أحزاب البلاد، فيما ارتفع عدد مقاعد “حزب الخضر” (وسط) إلى أربعة، بعدما كان ممثّلاً بمقعد يتيم، ونجح “حزب ريفورم” (الإصلاح)، من جهته، في كسب أربعة مقاعد، لعلّ أهمها في كلاكتون حيث أوصل زعيمه، نايجل فاراج، إلى البرلمان، بعد ثماني محاولات فاشلة، كما تمسّك “حزب شين فين” المؤيّد للوحدة الإيرلندية بجميع مقاعده السبعة، وزاد أغلبيته، ما جعله أكبر حزب في إقليم إيرلندا الشمالية، رغم أنه لا يرسل نوابه لحضور جلسات البرلمان في لندن. لكنّ “القوميين الإسكتلنديين” الذين احتكروا تمثيل الإقليم الشمالي لأجيال، تلقّوا خسارة قاسية، ليصبحوا مجرّد حزب صغير في الإقليم الشمالي، ممثّل بأقلّ من 10 نواب في مجلس العموم، تاركين 37 مقعداً لنواب من “العمل”. وكان الحزب القومي، أخيراً، مسرحاً لسلسلة من الفضائح التي هزّت ثقة الناخبين بقياداته، خصوصاً بعدما استدعي بعضهم للتحقيق بتهم فساد.
وفي هذا الوقت، كان ستارمر يلقي خطاب النصر، معلناً أنّه “سيخدم مصالح الطبقة العاملة”، و”سيضع البلد أولاً فوق الحزب”، على أن “يبدأ التغيير فوراً”، فيما أقرّ رئيس الوزراء المنتهية ولايته، ريشي سوناك، بهزيمة حزبه، واتصل بالسير كير لتهنئته قبل أن يتوجّه إلى قصر باكنغهام ليتقدّم باستقالته رسمياً للملك، وتبدأ عملية نقل السلطة إلى الطاقم الجديد. على أن تبادل الكراسي الصريح ذاك، لا يعكس بالضرورة الديناميات التي أنتجته والتي لا يمكن قراءتها إلا بعد تدقيق معمّق في الكيفية التي سقط بها “المحافظون” هذه المرّة، وكيف تحقَّق هذا الانتصار الساحق لـ”العمل”، على رغم خواء برنامجه من أيّ قضيّة رابحة. وحصد الأخير ثلثي مقاعد مجلس العموم، مقابل ثلث مجموع أصوات الناخبين، أي أقلّ بكثير من أرقام استطلاعات الرأي، وأقلّ بكثير من عدد الأصوات التي حصل عليها في انتخابات عام 2017، تحت قيادة جيريمي كوربين. وفي العاصمة والمدن الكبرى، كان أداء الحزب أضعف بشكل عام، مقارنة بالانتخابات السابقة، حيث خسر عدة مقاعد مركزية لمصلحة منافسين له، سواء من المستقلّين أو من ممثّلي أحزاب صغيرة.
«حزب العمل» سيحكم بريطانيا عمليّاً، بتفويض أقلّ من 20% من مجموع الناخبين
على أن النظام الانتخابي البريطاني الذي يمنح تمثيلاً أكبر لذوي البشرة البيضاء وسكان البلدات المتوسطة وملاك العقارات على حساب الأجيال الشابة التي تعيش في المدن الكبرى وتنحدر غالباً من أصول مختلطة أو من مهاجرين، مكّن “العمل” من انتزاع مقاعد “المحافظين” الكثيرة خارج المدن الكبرى، حتى من دون أدنى زيادة في عدد الأصوات في المقاطعة الواحدة، إذ إن كتلة الصوت اليميني البريطاني الذي كان بكلّيته وراء “المحافظين”، انقسمت هذه المرّة مناصفة تقريباً بين هذا الأخير و”حزب الإصلاح”، ما سهّل حصول “العمل” على عشرات المقاعد، فضلاً عن وراثة “الحزب القومي الإسكتلندي” الذي قدّم 37 مقعداً لمصلحة مرشحين “عمّاليين”. وهكذا، فإن القلعة المبهرة التي شيّدها الحزب الحاكم الجديد، تقوم أساساتها على رمال متحرّكة. وإذا أضيفت إلى ذلك نسبة المشاركة التي لم تتجاوز الـ58% من مجموع الناخبين المسجّلين – وتكاد تكون الأدنى في 100 عام -، فإن “حزب العمل” سيحكم بريطانيا عمليّاً، بتفويض أقلّ من 20% من مجموع الناخبين. وحتى ستارمر نفسه، حصل على نصف الأصوات في هولبورن وسانت بانكراس، التي كان حصل عليها في عام 2019، وذلك بعد منافسة حادّة مع المستقلّ المؤيد لفلسطين، أندرو فاينشتاين.
وعلى رغم ما تقدّم، فإن لعبة الانتخابات البريطانية، مثلها مثل كرة القدم، الفوز فيها لمن يسجّل أهدافاً بغضّ النظر عن مستوى اللعب وطريقته. فهل اتّجهت بريطانيا إلى اليسار بعكس أمم البّر الأوروبي التي مالت رياحها إلى اليمين في السنوات الأخيرة؟ فوز “العمل” – بروابطه التاريخية بالنقابات العمّالية في البلاد – لا يُعدّ مكسباً لليسار بأيّ شكل من الأشكال، حيث عمد ستارمر، خلال السنوات الأربع التي قاد فيها الحزب، إلى تطهيره تماماً من الكوادر ذوي النفس اليساري، بمن فيهم جيريمي كوربين، الزعيم السابق للحزب، ونقل تموضعه الأيديولوجي من يسار الوسط إلى مكان هلاميّ في قلب الوسط مع ميل إلى اليمين، وأزال كل ملمح راديكالي من برنامجه، حتى بدا مانيفيستو “الخضر”، بالمقارنة معه، شديد الجذريّة، كما حصل على تأييد رأس المال ومصالح الأعمال الكبرى على حساب أيّ مكاسب موعودة للعمال. وهو فوق ذلك كلّه، انحاز إلى إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين، بخلاف موقف جمهور الحزب.
ولذا، فإن المدّ الأحمر الذي استيقظت بريطانيا عليه، ليس سوى حلم ثوريّ كاذب. والأخطر من عقم هذا المد، أنه جاء بمثابة هبة لصعود تيار أقصى اليمين المتطرّف بقيادة نايجل فاراج، الذي، وإنْ فشل في الحصول على عدد كبير من المقاعد في مجلس العموم، واعتصم بالعدد 4، إلا أن حجم الكتلة الشعبية التي منحته الثقة (حوالى 15%) يشير إلى أن “الإصلاح” أصبح واقعياً الممثّل الرئيسي لليمين البريطاني، بدلاً من “المحافظين”، ومنصّة شعبوية عريضة تمزج بين الحروب الثقافية والعداء للمهاجرين والاقتصاد النيوليبرالي. وعليه، يمكن الزعم أن انتخابات الخميس كانت أقرب إلى تصويت احتجاجي عاصف ضد أحزاب السلطة (المحافظون، والقومي الإسكتلندي) ، أكثر منها تأييداً لبديلها، “العمل”، الذي فاز بجائزة لا يستحقّها.