بكين تستضيف القادة الأفارقة: تطلّع إلى «شراكة» مستديمة
ينعقد منتدى التعاون الصيني – الأفريقي بنسخته التاسعة، بين الرابع والسادس من الجاري، في بكين التي وصل إليها عدد من القادة الأفارقة، توازياً مع إعلان أمانة المنتدى افتتاح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، أعماله. ومن المنتظر أن يركّز المنتدى على الحيوية الاقتصادية ومكاسب المجتمع المحلّي والاستدامة البيئية، وكذلك عمليات التحوّل في اتجاه انخراط أكبر للقطاع الخاص.
نمو ثابت في الاستثمارات
يمثّل المنتدى واحداً من أبرز أُطر التعاون الصيني – الأفريقي منذ تأسيسه قبل نحو ربع قرن (2000). وتأتي نسخته التاسعة، بعنوان «تجمّع صيني – أفريقي لمستقبل مشترك»، وسط تعاظم تحدّيات المنافسة الدولية على موارد القارة، حيث تحضر الصين بوصفها الشريك التجاري الأول لدولها، وأيضاً في ظلّ نجاح نسبي لجهة وفاء بكين بتعهداتها، عبر تقديم قروض قيمتها 155 مليار دولار للدول الأفريقية، من إجمالي تعهدات بلغت 191 ملياراً في الفترة الممتدة بين عامي 2006 و2021. ويعزّز ما تقدّم، مؤشرات تعميق الصين توجّهاتها نحو الجنوب العالمي، في ضوء عاملَين مترابطَين: الأهمية الاقتصادية لأفريقيا كمصدر رئيسي (ورخيص) لنمو الاقتصاد الصيني؛ والأهمية الجيوسياسية للقارة في سياسات بكين الدولية بشكل عام.
وأَظهرت تقارير صادرة عن «مبادرة بحوث الصين – أفريقيا»، نهاية آب الماضي، أن الاستثمارات الصينية في أفريقيا أخذت في الارتفاع منذ عام 2003، مع زيادة الاستثمار الرأسمالي من 75 مليون دولار في عام 2003، إلى 5 مليارات دولار في عام 2021، قبل تراجعها إلى 1.8 مليار دولار في عام 2022، وهو تراجع لا يمكن إرجاعه إلى سياسات بكين وحدها، بل يرتبط بشكل مباشر بافتقار الدول الأفريقية إلى رؤية استراتيجية واضحة إزاء تعاونها مع الصين.
وعلى هذه الخلفية، تحوم حول المنتدى علامات استفهام كبيرة، بالنظر إلى استئثار عدد قليل من الدول الأفريقية (الكبيرة في واقع الأمر) بعوائد التعاون الصيني – الأفريقي؛ إذ حصل البنك المركزي في مصر، مثلاً، على نحو مليار دولار نقداً من القروض الصينية التي قُدّمت في عام 2023، لقائمة شملت 8 دول، هي: مصر، نيجيريا، بوركينا فاسو، ساحل العاج، إريتريا، مدغشقر، أنغولا وأوغندا، وبلغ إجمالي المبلغ 4.61 مليارات دولار، فيما حصلت نيجيريا على مبلغ مماثل، ما يعني استئثار البلدَين المذكورين وحدهما بما نسبته 43.3% من القروض الصينية لأفريقيا في العام المذكور، بحسب دراسة لـ»مركز سياسات التنمية العالمية» (آب 2024).
تأتي الدورة الحالية بعد إعلان الصين إعادة صياغة مبادرة «الحزام والطريق» وتبنّيها فكرة تنفيذ مشروعات بموازنات أصغر
أجندة «FOCAC»: خطوط عامة
تتّسق أجندة «FOCAC» على نحو كامل مع تطلعات الصين إلى تبنّي مقاربة مرنة من أجل شراكات راسخة مع الدول الأفريقية، وتعزيز ما تراه بكين دمجاً لمشروعات مبادرة «الحزام والطريق» الأفريقية في أجندة «أفريقيا 2063»، ولا سيما تمويل مشروعات السكك الحديدية العملاقة والطاقة المتجدّدة، والتخفيف من أضرار التغير المناخي في العالم عبر نقل تكنولوجيا الطاقة النظيفة إلى أفريقيا. وتركّز أجندة الدورة الحالية على ثلاثة أولويات رئيسية، هي: الطاقة الخضراء عبر التركيز الفائق على المشروعات الصغيرة ذات الأهمية والتأثير المجتمعيَّين؛ والترابط العالمي والتحالفات السياسية التي تكون بطبيعة الحال في خدمة السياسات الصينية الاقتصادية، وقدرة بكين على توظيف أدوار الدول الأفريقية في هذا المسار.
وتأتي هذه الدورة بعد إعلان الصين إعادة صياغة مبادرة «الحزام والطريق» (تشرين الأول 2023)، وتبنّيها فكرة تنفيذ مشروعات بموازنات أصغر يمكن إعادة سداد تكاليفها (من قِبَل الدول الأفريقية) على فترات زمنية أقصر، على أن تكون تلك المشروعات ذات آثار بيئية محدودة وعائدات تنموية كبيرة. وسيعزّز المنتدى اعتماد أفريقيا على الصين كمورّد عالمي رئيسي لتكنولوجيا الطاقة المتجدّدة (أو النظيفة)، ولا سيما أن الشركات الصينية حقّقت ريادة عالمية في مجال تكنولوجيات تخزين الطاقة الذكية، والتي تلائم بشكل مباشر بيئات عدد كبير من الدول الأفريقية التي لا تملك شبكات كهرباء موحّدة متّصلة مركزياً. كما أن مثل هذه المشروعات ستكون ركيزة أساسية في خطط التنمية والتحوّل الصناعي لدى الحكومات الأفريقية، بالنظر إلى تركيز الشركات الصينية على التعامل مباشرة مع الحكومات في هذا القطاع، وليس مع شركات الطاقة المتجددة الخاصة.
أمّا في مجال الاتصال والربط العالمي، فإن أفريقيا تمثّل واحدة من أهم ساحات عمل الشركات الصينية، في ظل الضغوط الغربية الكبيرة على عملياتها في أوروبا والولايات المتحدة. كما تحظى أنشطة تلك الشركات بقبول كبير في مجمل الجنوب العالمي، وأفريقيا على وجه الخصوص، لاعتبارات انخفاض التكلفة، فيما توجّه الشركات الصينية بربط تقديمها شبكات الاتصالات في أفريقيا بتقديم الكهرباء اللازمة، ما زاد من مقبولية عملها رسمياً وشعبياً في أفريقيا.
الصين واحتواء أفريقيا: أدوار مزدوجة
وصل عدد من القادة الأفارقة إلى بكين استعداداً لانطلاق أعمال المنتدى، ومنهم رؤساء جنوب أفريقيا، وجيبوتي، وتوغو، والكونغو الديمقراطية، وغيرها، والذين التقوا، في محادثات ثنائية، مع الرئيس الصيني. وأكّد الأخير، عقب لقاء جمعه، إلى نظيره الكونغولي، فليكس تشيسيكيدي، أمس، عزم بلاده على تمتين الثقة بين البلدَين وتعميق التعاون في قطاعات الزراعة ومعالجة المعادن والتدريب الحرفي «ومساعدة جمهورية الكونغو في تحويل ميزاتها في الموارد إلى محرّكات للنمو»، متعهداً بإعلان سياسات صينية جديدة خلال أعمال المنتدى. ومن جهته، أكّد الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوسا، الذي تعتلي بلاده قائمة أكبر شركاء الصين التجاريين في أفريقيا بتبادل تجاري لامس 56 مليار دولار في عام 2023، عقب وصوله إلى بكين، أمس، سعي بريتوريا للاستفادة من مقدّرات بكين في قطاع الطاقة المتجدّدة، وطالب نظيره الصيني، خلال لقائهما، بتوفير الفرص لتضييق الفجوة في الميزان التجاري بين البلدين.
أما لقاء شي بالرئيس الجيبوتي، عمر جيلة، فجاء بعد ساعات من إعلان حكومة الأخير استعدادها لمنح ميناء تاجوراء لإدارة إثيوبية كاملة من أجل نزع فتيل الأزمة المستعرة في القرن الأفريقي، والتي شهدت متغيّرات حادة عقب التوتّر الصومالي – الإثيوبي، وتدخّل مصر في دينامياته. ويبدو أن مبادرة جيبوتي، التي تستضيف قاعدة عسكرية صينية ضخمة وتملك الصين فيها مصالح اقتصادية معتَبرة، ليست بمنأى عن مجمل سياسات بكين في القرن الأفريقي وجهودها لاحتواء أيّ توترات مستقبلية تمسّ واحداً من أهم شركائها في القارة: إثيوبيا.
محمد عبدالكريم احمد